ذكرياتي

كُنا في القطيف المحروسة

رحلة مُختلفة، شاهدت فيها بعض مراسيم إحياء عاشوراء في القطيف المحروسة، كُنت هناك في ليلة الثالث عشر من هذا الشهر الحزين برفقة والدي الحاج مكي المتروك وأخي يوسف المهنا، خرجنا من الحدود الكويتية يوم الخميس قرابة الساعة الرابعة عصراً، قبلها كُنا متسلحين بكميّة لا بأس بها من المأكولات الخفيفة للتسلية في الطريق –قد يكون مفهوم التسلية غير واضح، لكنّنا نُحب الأكل في حالة السفر عبر السيّارة-، خلال الطريق الطويل –على سكّان دولة الكويت- الذي استغرق حوالي الثلاثة ساعات وبعض الدقائق استغرقنا في الحوارات المُختلفة التي تخص مناسبة شهر محرّم الحرام، فكان الحديث حول أنّ من يحارب الشعائر الحسينية عليه إعادة التفكير بهذا الأمر، واستغلال هذا الأمر بطريقة أخرى، ودعم هذه الشعائر لكسب المزيد من المنعة والقوّة في محيط التشيّع، وبعض الحوارات الخاصّة الأخرى التي تشرّفت بأن أكون طرفاً بها بوجود والدي الحبيب الذي يضيف لأيّ حوار مُتعة خاصّة جداً.

وصلنا إلى أرض (الربيعية) بعد توقّف قصير لصلاة المغرب والعشاء في أحد الاستراحات، لم أكن أتصوّر بأنني سأشاهد الرايات السوداء وهيَ تعتلي البيوت، ولم أكن أتصوّر بأنني سأشاهد بعيني كلمة (ياحسين) وهيَ مرفوعة في تلك البقعة، حقيقة يُمكنني كِتابة كلمة (القطيف المحروسة) وأنا بكامل الثقّة بأنّها محروسة بأهلها، شعرت بالفخر بأنني وصلت إلى أرضٍ تبكي الحُسين (عليه السلام)، وصلنا إلى حسينية سيد الشهداء (عليه السلام) التي استضافنا بها الإنسان الخلوق جداً [سيد محفوظ]، شربنا كوباً من الشاي اللذيذ بعد رحلة طويلة لم نشرب فيها إلا اللبن و(حليب الكاكاو)، وانطلقنا مجدداً لنصل إلى أرض (أم الحمام) لنكون في ضيافة الأصدقاء رابطة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في مخيّم عبدالله الرضيع (عليه السلام) 110.

في أم الحمام استمعنا لكلمة من سماحة السيد ماجد السادة، واطلعنا على بعض الأفكار مثل (مضيف الإمام الباقر (عليه السلام) الثقافي) وهوَ مضيف يعنى بنشر الكتاب، ومعرض صور خاصّة بأربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) من تصوير المصوّر محمد شبيب، وتشرّفت شخصياً برؤية بعض الأصدقاء مثل (محمّد آل محمد، جابر آل قريش، محمد الرضوان، حسين فاران، …)، والجميل أنني تحصّلت على بعض الإصدرات والكُتب من الأصدقاء. أشكركم جميعاً على الأنشطة وعلى الاستضافة الجميلة، واعذرونا على الزيارة السريعة الخاطفة.

عدنا مُجدداً بعدها إلى (الربيعية) لحضور مجلس دفن شهداء كربلاء، اعتلى المنبر سماحة الشيخ علي البيابي الذي تمكن من إدخال الحُزن في قلبي عبر صوته الشجّي واختياره الموفّق للكلمات حول هذه الفاجعة، وبعدها انطلقت مراسيم اللطم مع رادود شاب يمتلك خامّة صوتية جميلة، وبعد الانتهاء من المجلس كانت وجبة العشاء اللذيذة مع (المحموص) وهيَ وجبة يبدو لي أنّها خاصّة بأهل القطيف .. رزُ بلون أسود! (بسبب البهارات) ودجاج بلون غامق جداً (بسبب البهارات) وطعم مُختلف جداً عن كُل أشكال الرز والدجاج التي أكلتها في كُل مكان، وتخلل وجبة العشاء نقاشات متنوعة مع كادر الحسينية وهُم من الشباب الحسيني المُخلص، بعدها حاول السيد محفوظ ابقاءنا في القطيف إلا أننا قررنا الرحيل والعودة إلى أرض الوطن، وصلنا بحفظ الله وسلامته إلى المنزل قرابة الساعة الـ 4 فجراً.

أشكر الجميع على استضافتنا، وأعتذر منهم مُجدداً على استعجالنا، وعودتنا السريعة إلى أرض الوطن، وأحييكم من بعيد وأرسل لكم أمنياتي بالتوفيق والسداد في قادم الأيّام وأسأل من الله أن يحرسنا ويحرسكم بعينه التي لا تنام.

أفكاري, خواطري, ذكرياتي

إنّه أبي

فوق سجّادة الصلاة، الغارقة برائحته، أتذكّر كل ما مضى من حياتي وحياته، بلا طقوس مسبقة بلا موعد مع الجنون، فغالباً مواعيدي معه تجلب الكثير من الملل، فوق تلك السجادة وبعد الركوع والسجود، أنظر وجهه يداعب وجهي، يحدّثني بصوته الجهوريّ الحنون، يقرأ لي آية من الذكر الحكيم، فوق ذات السجّادة صنع مسجداً للعشّاق، كانت مسجداً لجبهته العريضة ذات التجاعيد المُثيرة، إن لم تكونوا تعرفوه، هوَ من ربّاني، وأهداني كلّ ما أملك، وعلّمني فلسفة العطاء بلا انتظار، إنه أعظم من رأته عيناي، هوَ والدي، الذي أحمل اسمه منذ بدء حياتي.

هل تعلمون كم مُترفٌ أنا بحبّ هذا الرجل العظيم؟، أغوص في كهوف دفء قلبه الكبير كلّما احتجته، لا أخفيكم سراً أنّ هذا الرجل الذي يُعرف بـ (أبي) وأعرفه بـ (حبيبي) هوَ من غرس فيّ عادة القراءة، وهوَ من أخذ بيدي لحظة قررت الكتابة، هوَ من يترك لي مساحة لا أجدها إلا في رحابة صدره لأعبث بها كيفما أشاء، لم يكن أب تقليدي أبداً، بل هو المُعلّم البارع الفقيه في كيفية التعامل مع حسين الطفل، وحسين المراهق، وحسين الشاب، وحسين الزوج وإلى الآن هوَ من يعرف كيف يتعامل معي ولا أجد رجلاً يعرفني كأبي، علّمني أن مركز القيادة في عالم البشرية هو مصدر قوّة كما هو مصدر ضعف إذا ما كان هُناك قائدٌ فاشل، علّمني أن الصداقات الخيّرة ترتقي بي والصداقات المُسيئة لي تجرّني إلى الهاوية، أبي هوَ الأستاذ الذي يضع الاختبارات لينير لي عقلي بعد التساؤلات، ويشير لي بقلبه الطاهر لأتجّه إلى مصادر المعرفة المكنوزة في مكتبته الأجمل، تلك التي ضمّت نفائس الكُتب، إنه الصديق الذي أودع في قلبه أسراري وحروفي ومشاريعي وخطواتي، هوَ الطبيب الذي يضمّد جراحاتي، لا أعرف أحداً كأبي. فعندما لا أجد أحداً في الطريق ليساندني، أجده ينتظرني بعد أن أصل للنقطة التي أعجز فيها عن مساعدة نفسي، هُناك في كل الطرقات المظلمة يُلهمني مناشدة النور، إنه الذي غيّر ملامحي، وقوّم اللحظات السلبية الكريهة التي غصت فيها، إنه من شاهد أخطائي، ولم يُبغضني، هو من آمن بي عندما اختفى الأصدقاء والرفاق من حولي، إنّه من صنع منّي إنساناً.

إلى الأبد سأبقى أنا الطفل الذي أحبّ أن يبقى طفلاً، تحت جناحه الكبير، وعطاءه اللامحدود، أقف عاجزاً، أتعلّم في كلّ يومٍ دروس ودروس من الحكمة والموعظة، أبي علّمني (حُبّ محمّد وآل محمّد)، أبي علّمني أن النجاح هوَ التمسّك بالحُسين (عليه السلام)، أرشدني إلى حكمة العصور الأولى، وأسرار الحياة، نقل إليّ إرثاً ثقيلاً من العلوم والفنون، مليئاً بالأحجار الكريمة العظيمة.

قبل الختام، أبي اعذرني على تقصيري، على جنوني، على فقري في العطاء، عُذراً على زلّاتي وأخطائي، عذراً على غرس الشيب في رأسك الجميل، .. وفي النهاية شُكراً أبي، شكراً أيها الحاج الزائر العاشق لمحمّد وآل محمّد، شكراً أبي مكّي محمد المتروك.