تحرّكت عجلة الرفض العُظمى لكل طغيان منذُ أن “عصروها”، وأنبتَ العَصر “كسراً” يُسمع صوتُه إلى هذا اليوم، دارت الرحى، وهُتِكَت من كانتَ “يرضى الله لرضاها”، عِلة الإيجاد رفعت الراية وصاحت “اعلموا أنّي فاطمة”. رفضَت كُل شيء يسلخ الاسلام، كُل شيء يُدخِل المسلمين في حِيرة، أعلنت رفضها لكُل ابتداع يقود الأمّة إلى الهلاك، فصارت “ساخطة” من هيَ “لولا فاطمة لما خلقتكما”. أكمل قراءة المقالة ←
الوسم: فاطمة الزهراء
حدّثني الباب
رُوِيَ عَنِ البابِ المَحروق المكسور في شهادته حول ذلك اليوم المشؤوم أنّه قال:
أسودُ اللون هذا الليل، لم تظهر فيه النجوم؛ وضلوعي الخشبية لم تستشعر الهواء فالحياة في خارج الدار تُشبه العدم. لستُ أدري ماذا كان يحصل في السماء العليّة، كُنت أشعرُ باضطرابها، وحرارة غليان الأرض لم تكن طبيعية أبداً، وفي دار “الوحي” كان القرآن يدور في الأفواه النورانية، وصوتُ دُعاء يظهر من خلف الحيطان، يُناجي المعبود الذي لا إله سواه ربّ الأرباب أكمل قراءة المقالة ←
أيّها الإنسان الأوّل، رحلت فاطمة.
سيّدي أيّها الإنسان الأوّل على هذه المسكونة، كيف كانت النظرة الأولى؟ هل تمكنت من المُشاهدة، وإلى أيّ حد تمكنت من رؤية الأشياء؟ هل ناظرت المُستقبل البعيد؟ كيف كان سمعُك الأوّل؟ هل أنصَتَّ لذلك الصوت القادم من المدينة المنوّرة؟ سيّدي أيّها الإنسان العظيم آدم، ما هيَ الأسماء التي علّمك إيّاها القدير العليم، هل كان فيها.. فاطمة؟.
ما بعد الدهشة الأوّلى، الدهشة البِكر، هل كان البُكاء الأوّل من أجلها يا سيّدي؟ الدمعة الأولى هل كانت من أجل تلك الزهراء العظيمة؟ اخترقت التاريخ ببُكائك يا والدنا، أوَلستَ أوّل البكائين الخمسة؟ وكُلّك علم بذلك النور .. المكسور الضِلع، يا سيّدي هل كان بُكاؤك العظيم من أجل ذلك الشهيد المُسمّى “مُحسن”؟، هل كانَ جَزعُكَ الأوّل ذلك الجزع الطريّ الذي لم يسبق أن أحسّ به أحد قبلك أنت، ذلك الجزع هل كان بعد أن وصل إلى سمعك تلك الكلمة:
- قيل في الدار فاطمة!.
- قال: وإن.
أم كان جَزعُك بعد أن شعرت بانغراس المسمار بصدرها؟ أم بعد أن تلوّى السوط على عضدها!، هل أُصبتَ بالعَمى للحظة؟ إنها تلك اللطمة التي وصلت إلى خد فاطمة يا سيّدي، هل كانت الحُرقة تلامس قلبك؟ إنها حُرقة دُموع (عليّ) يا سيّدي حين لامس ذلك الضلع المكسور. آدمنا العظيم هل سقطت منك مِسبحتك؟ أم انحلّ عَقدها؟ هيَ انفطرتْ لذلك النداء:
- أمّاه أنا فرخُكِ الحُسين .. كلّميني.
كان ذلك النور الخامس يا سيّدي، ذبيح كربلاء، غريبُ الغُرباء، ذلك الذي كَتب ابنُك نوح اسمه على سفينته، ذلك العظيم الحُسين، هل سمعت ارتجاف صوته؟ أم شاهدت لحظة ذبحه؟ سيّدي يا صفوة الله، أهذا هوَ إرثك.. دموعك؟، سيّدي أيّها الإنسان الأوّل، رحلت فاطمة، عادت إلى ربّها راضيةً مرضيّة.
إرثٌ ثقيل، يحمله الإنسان كما الرسالة العُظمى، ينقله من جيل إلى جيل، إرث البُكاء على فاطمة، إرث الجَزَع عليها، هوَ هدف لا وسيلة، من لا يبكي عليها فليهرب إلى أرضٍ قاحلة ويصرخ .. إلهي دمعة من أجل فاطمة، إلهي دمعة من أجل فاطمة.
—
أسألكُم دمعة، أشتريها بثمن كُل كلمة كُتبت هُنا.
للمُدن أسرار
في منتصف الليل، زارني دون استئذان، دخل وأخبرني أنّ الغُربة التي أعيشها مصدرها نوم بقيّة العُشّاق، في سبات عميق، دخلوه قبل أعوام ولا يزال النوم مُسيطراً على عقولهم!.
وكشف لي عن ثِيابُ الأسى التي تُغزل من دماء سالت قبل ألف عامٍ وأكثر، وأسمعَني ألحاناً عُزفت لتُثير الدموع وتصنع منها بركاناً ثائراً ينبع من عينٍ حمراء دامية، يتفجّر باستمرار دونَ مللٍ أو كلل، لتُغرَس الدمعة عبر مخالب الحُزن في القلوب دون رحمة أو استجداء عطف، وأخبرني أنّ النيران تحبو ببطء إلى بابِ الرّحمة لتُشعِلَ نيراناً لا تنطفئ، وتعيد كسرى والطُغاة.
قبل أن يخرج أهدانيَ ثوباً مُمّزقاً وتلعق الأرض قطرات دمه الطهور!، ونظر إليّ بنظرة المودّع الراحل إلى تلك المدينة النائمة فوق النهر التي انغمست في لوعة الغياب منذ تلك اللحظة التي تهاوت فيه “الطُهر” فوق التراب، ولا شيء يمكنه إيقاف عجلة التاريخ، رغَم أنّ المُدن تحتمل الأسرار في جوفها، إلا أنّها في بعض الأحيان تتقيّء غضباً كلّ الذكريات!، وما إن توارى عن عيني، حتّى بدأ الهَم يقضمُ خُبزاً يابساً من عقلي! -يا تُرى هل يأكل الخُبز اليابس إلا الفقير أو ذلك المُشرّد البائس في زماننا هذا؟!- يا تُرى هل نمتلك تلك القوّة التي تحتوي كلّ حَرف؟ أم الكلمات هيَ مُجرّدة لا تحتوي على شيء إلا رسمٌ أفعواني يتلوّى فوق السطور لنتمكن من التواصل؟ لا يُهم .. المُهم هوَ أنّ المُدن هتكت أسرارها وأخبرتنا أنّ الحياة لم تَكُن أجمل، بل كانت أقسى، ولم تكن أطهر بل كانت مليئة بالعفونات!، باستثناء بعض الطُرقات، والنور لم يسكن المنازل كما أخبرونا!، بل سالت الدماء في كلّ زاوية من زواياها، والبيت الكبير الذي يحتوي هذه المُدن مُجرّحٌ بفعل أشباه البنين الذين سكنوه طمعاً في الطعام والنقود!.
ليلي المُظلم لا ينتهي، يمتد ويمتد ويخنق أنفاسي بحثاً عن حرف تَنزفه يدي، وما إن أتوقّف حتّى يطأ صدري بقدمه المُثقلة بالهموم، ويضغط على أضلعي بحثاً عن نقطة أخرى أكتبها!، يمارس الإرهاب بطريقة مجنونة تضعني في مأزق الكتابة.
××
عظّم الله لنا ولكم الأجر في ذكرى استشهاد الصدّيقة الكُبرى أم أبيها فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.