يُمكن لقصيدة واحدة تغيير حياتي، يُمكن لصوت “رادود” قلب أفكاري!، الانصات إلى قصيدة ما وبصوتٍ جميل فعل يشبه القراءة كثيراً، يُمكنني القول بأنّ الانصات لهذه القصائد وهيَ تُقرأ بصوت أحد الرواديد المبدعين يجعل من كلمات هذه القصائد حيّة، مُتحرّكة، ترسم لوحات نابضة أمام وجهي. لدي الكثير من الذكريات مع القصائد الحسينية، كما لدى الكثير من الأصدقاء هذه الذكريات. سأحاول التذكّر معكم، سأحاول الكتابة عن تلك القصائد التي بقيت معي إلى اليوم، ترافقني في الكثير من الحالات، في الكثير من اللحظات، وأعتقد شخصياً بأن هذه القصائد شكّلت جزء من شخصيتي الحالية!.
“شفت بالنار خيمة مستعرة” من القصائد التي أحب، وصوت “باسم الكربلائي” هوَ الصوت الأقرب لقلبي في مجال الرثاء الحسيني إلى الآن، كتبت هذه القصيدة على يد الشاعر الأديب “جابر الكاظمي” في وقتٍ ما لستُ أعرفه حقيقةً. وألقاها على مسامع الحضور الكربلائيّ الشجّي أوّل مرّة في حسينية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) –الكربلائية- في دولة الكويت، ولازلت أتذكّر أنني كُنت حاضراً لذلك المجلس، كُنت في المنتصف أقف مندهشاً، فالحضور لا يزال يظهر أمامي في الكثير من اللحظات وطريقتنا في الوقوف ونحن متقابلين، لازلت أتذكّر ذلك الشاب الأشعث الذي كان يقف أمامي، نحيلاً بشكلٍ لا يصدّق أضلاعه كانت تظهر أمام عيني، أتذكّره جيداً لأنّه في لحظة ما بكى بصوتٍ عالِ، ولطم وجهه وبدأ بالنحيب بعدها ولم يهدأ إلى أن انتهى الحاج باسم الكربلائي من القصيدة بشكلٍ كامل، في ذلك الوقت لم أكن أفهم كيف يُمكن لشخص المشاركة في عزاء اللطم هذا وفي نفس الوقت البُكاء والتفاعُل مع القصائد التي تُلقى!.
في ذلك الوقت كان بعض الأصدقاء يتمكن من الحصول على التسجيل الخاص بالليلة نفسها في نفس لحظة الانتهاء من المجلس!، كان الأمر مُذهلاً ويُشعرني بأنني أعرف أناساً لهم صِلات كبيرة في الحُسينية، إلا أنّني اكتشفت أنّ الأمر طبيعي لاحقاً، يكفي أن تعرف ذلك الشاب الواقف خلف جهاز التسجيل، يَنسخ لك التسجيل في لحظات ويعطيك الشريط مقابل مبلغ بسيط من المال، كان الأمر عجيباً وقتها، إلا أن هذا الأمر مع هذه القصيدة جعلني أتساءل عن معاني بعض الكلمات التي وردت في القصيدة من الأصدقاء، لم أكن أعرف معنى كلمة “الأطناب” باللهجة العراقية الدارجة، هذه الكلمة وردت في المقطع “وبحرقة الأطناب .. نذكر لهيب الباب” هذا المقطع هوَ من جعل ذلك الشاب الواقف أمامي ينفجر، استفسرت عن هذه الكلمة واكتشفت أنّها تعني “الخيام” والربط بين الخيام والباب يجعل من خيام السيّدة زينب (عليها السلام) مُحترقة كما هوَ باب السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، قد تكون هذه المعلومة أو الربط الشعري مُتكرر إلا أن حضور الكلمات بصوتٍ كصوتِ “باسم” أمرٌ مُتجدّد حي، قادر تكوين صورة تفاعلية أمام المُستمع إليها.
منذ ذلك اليوم وأنا أبحث عن رؤية كلمات القصائد، مشاهدة الأحداث بعين القلب، لا فقط الاستماع إلى اللحن الجميل الذي يواكب المعنى.