فوق سجّادة الصلاة، الغارقة برائحته، أتذكّر كل ما مضى من حياتي وحياته، بلا طقوس مسبقة بلا موعد مع الجنون، فغالباً مواعيدي معه تجلب الكثير من الملل، فوق تلك السجادة وبعد الركوع والسجود، أنظر وجهه يداعب وجهي، يحدّثني بصوته الجهوريّ الحنون، يقرأ لي آية من الذكر الحكيم، فوق ذات السجّادة صنع مسجداً للعشّاق، كانت مسجداً لجبهته العريضة ذات التجاعيد المُثيرة، إن لم تكونوا تعرفوه، هوَ من ربّاني، وأهداني كلّ ما أملك، وعلّمني فلسفة العطاء بلا انتظار، إنه أعظم من رأته عيناي، هوَ والدي، الذي أحمل اسمه منذ بدء حياتي.
هل تعلمون كم مُترفٌ أنا بحبّ هذا الرجل العظيم؟، أغوص في كهوف دفء قلبه الكبير كلّما احتجته، لا أخفيكم سراً أنّ هذا الرجل الذي يُعرف بـ (أبي) وأعرفه بـ (حبيبي) هوَ من غرس فيّ عادة القراءة، وهوَ من أخذ بيدي لحظة قررت الكتابة، هوَ من يترك لي مساحة لا أجدها إلا في رحابة صدره لأعبث بها كيفما أشاء، لم يكن أب تقليدي أبداً، بل هو المُعلّم البارع الفقيه في كيفية التعامل مع حسين الطفل، وحسين المراهق، وحسين الشاب، وحسين الزوج وإلى الآن هوَ من يعرف كيف يتعامل معي ولا أجد رجلاً يعرفني كأبي، علّمني أن مركز القيادة في عالم البشرية هو مصدر قوّة كما هو مصدر ضعف إذا ما كان هُناك قائدٌ فاشل، علّمني أن الصداقات الخيّرة ترتقي بي والصداقات المُسيئة لي تجرّني إلى الهاوية، أبي هوَ الأستاذ الذي يضع الاختبارات لينير لي عقلي بعد التساؤلات، ويشير لي بقلبه الطاهر لأتجّه إلى مصادر المعرفة المكنوزة في مكتبته الأجمل، تلك التي ضمّت نفائس الكُتب، إنه الصديق الذي أودع في قلبه أسراري وحروفي ومشاريعي وخطواتي، هوَ الطبيب الذي يضمّد جراحاتي، لا أعرف أحداً كأبي. فعندما لا أجد أحداً في الطريق ليساندني، أجده ينتظرني بعد أن أصل للنقطة التي أعجز فيها عن مساعدة نفسي، هُناك في كل الطرقات المظلمة يُلهمني مناشدة النور، إنه الذي غيّر ملامحي، وقوّم اللحظات السلبية الكريهة التي غصت فيها، إنه من شاهد أخطائي، ولم يُبغضني، هو من آمن بي عندما اختفى الأصدقاء والرفاق من حولي، إنّه من صنع منّي إنساناً.
إلى الأبد سأبقى أنا الطفل الذي أحبّ أن يبقى طفلاً، تحت جناحه الكبير، وعطاءه اللامحدود، أقف عاجزاً، أتعلّم في كلّ يومٍ دروس ودروس من الحكمة والموعظة، أبي علّمني (حُبّ محمّد وآل محمّد)، أبي علّمني أن النجاح هوَ التمسّك بالحُسين (عليه السلام)، أرشدني إلى حكمة العصور الأولى، وأسرار الحياة، نقل إليّ إرثاً ثقيلاً من العلوم والفنون، مليئاً بالأحجار الكريمة العظيمة.
قبل الختام، أبي اعذرني على تقصيري، على جنوني، على فقري في العطاء، عُذراً على زلّاتي وأخطائي، عذراً على غرس الشيب في رأسك الجميل، .. وفي النهاية شُكراً أبي، شكراً أيها الحاج الزائر العاشق لمحمّد وآل محمّد، شكراً أبي مكّي محمد المتروك.