لم تكن معركة عاشوراء مُجرّد معركة فارغة المحتوى كمعارك دارت رحاها من أجل ناقة!، لم تكن ملحمة الطف مُجرّد ذكرى عابرة نطوف عليها نحن قرّاؤها كما نطوف على ملحمة جلجامش، كما أيضاً هيَ ليست حكاية أو أسطورة نحكي تفاصيلها لنستمتع بها كما نستمتع بحكايات التنين الصيني، هي حدث غيّر مجرى التاريخ، وأعاد صياغة الحياة على وجه الأرض، هيَ رحلة الإنسان العظيم لإعادة الإنسانية لموضعها الصحيح، هيَ الحدث الذي لا يزال يغيّر في النفوس، وكُل هذا بسبب صنيعة الإمام الحُسين (عليه السلام) في تلك اللحظات المؤلمة، فكُل فِعل في كربلاء كان درساً نموذجياً، وكُل كلمة نُطقت كانت نصيحة خالدة لنا نحن عشيرة آدم (عليه السلام).
لهذا كان لزاماً على كُل شخص يحاول قراءة الطف ومصائبه أن يكون على قدر عالِ من المسؤولية، فقراءة مثل هذه الحادثة يغيّر في القلب، ويغيّر في العقل، ويغيّر في الروح، ولعل أوّل من أسس لكل هذه التغييرات هوَ من قُتِلَ في هذه الحادثة، هوَ من استشهد وترك دمه يسيل على صفحات التاريخ ويُخلّد أبدَ الدهر.
الحُر بين يزيد الرياحي نموذج عظيم جداً لكل هذه التغييرات، ففي بداية الأمر كان يحمل في قلبه احتراماً لأمّ الحُسين (عليه السلام) سيدتنا ومولاتنا الصديقة الكُبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وفي بداية الأمر كان لديه بعض الشكوك الساكنة في عقله، إلا أنّ روحه العظيمة أبت إلا أن تستجيب في تلك اللحظات لواعية الحُسين (عليه السلام)، تغيّر من حالٍ إلى حال بعد أن أنصت لصوت العقل والفِطرة السليمة، وشاهد بعينه نور سفينة الحُسين (عليه السلام) المُبحرة في ساحة كربلاء، قدّم الندامة. قُبِل اعتذاره. استشهد.
لنحكي قليلاً عن الموت. إن للموت قُوّة عجيبة على التغيير، فما أن نُطالع الروايات التي تحثّنا على تذكّره نشعر بطاقته العجيبة على تغييرنا للأفضل دوماً، فلهذا الزائر الدائم لبيوت الأرض قُدرة على سلب الأفراح من الوجوه وخلع السعادة من القلوب، ما أن يخطف أحبابنا حتّى تقف الثواني احتراماً لهذا الحدث، تتعاطف معنا الدُنيا الدَنيّة، تُشعرنا بضعفنا، ونشعر نحن بحجم خوفنا، هذا الموت المُرعب الذي يغرس شتلاته يومياً، هذا الموت الذي لا يعرف لغة الانتظار، هذا الموت الذي يباغت الواحد منّا ليبكيه الآخرون ويبكون أنفسهم!.
في كربلاء كان الأمر مُختلفاً جداً، فالإمام الحُسين (عليه السلام) لم يكن يهاب الموت، ولم يكن ينتظر أن يطرق هوَ بابه، بل انطلق إليه، ليُسجّل موقفاً فريداً في التاريخ، آخر ابن بنت نبيّ على وجه الأرض، آخر الأسباط، يذهب إلى ساحة كربٍ وبلاء ليسحق فكرة الخوف من الموت، ليؤسس لفكرة الانتصار على الموت والخلود، ليقتلع فكرة الفناء، فالأمر هُنا غير خاضع لقوانين البشر، هيَ عنايات ربّانية بمن حضيَ بنُصرة الإمام المظلوم، هيَ نظرات إلهية لمن أيقن بالحُسين (عليه السلام). إن الإمام (عليه السلام) أسقط فكرة الخوف من الموت من عرشها، بل وهزّها أكثر من مرّة وهيَ لا تتحرّك، حدّثهم بأنّه يُقتل ومن يبقى يُقتل، ولم يرحل الأصحاب. حدّثهم بأنّ نساءه تُسبى فشجّعت الزوجات أزواجهم على القتال بين يديه، وبقائهم بين يدي نساء الحُسين (عليه السلام). إن هؤلاء الأنصار قال فيهم (سلام الله عليه) “والله ما رأيت أصحاباً كأصحابي”، هُم من آمنوا به، وسلّموا أرواحهم بين يده. هوَ الذي أضاء لهم طريق الموت. فخُلّدوا.
قال زهير بن القين “والله! لوددت أني قتلت، ثم نشرت، ثم قتلت حتى أقتل على هذه ألف مرة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك”. أيّ قُدرة هذه، صراع دائم مع الموت؟ لا بل استهزاء بفكرة الخوف منه!، إنّهم كانوا على أتمّ الاستعداد للموت آلاف المرّات إن كان لهم الأمر، لكنّهم استشهدوا بين يديه وهُم يعلمون بأنّه لاحق بهم بعد لحظات، بكى الجميع لكن .. في لحظة وداعهم الحُسين (عليه السلام).
أسس الإمام الحُسين (عليه السلام) فكرة الانتصار الروحي، فلم يكن ينتظر من اللعناء واللقطاء أيّ رحمة، بل كان ينتظر لحظة اصطكاك السيوف والرماح، لحظة الخلود، لحظة “خُذ حتّى ترضى”، في الطف انطلقت فكرة انتصار الأفكار والتعاليم الربّانية على كُل أشكال الانتصار المادي، فالانتصار عبر الاستشهاد هوَ أعظم أشكال الانتصار، لم يعرف الكون كُله وسيلة للبقاء على قيد الحياة والتأثير في الآخرين كما عرف أن الإمام الحُسين (عليه السلام) خُلّد بوفائه للإسلام، خُلّد بدمه لا بسيفه، وانتصر بفِكره لا بعُنفه. ولم يكن الموت هاجساً عنده، بل كان رحلة تقود الإسلام للبقاء بشكلِه النقيّ البعيد عن التحريف.
كان الموت أبسط الأمور،
الأقسى هوَ .. سبيُ زينب.
—
مشاركة بسيطة في مجلّة القُربان الصادرة عن هيئة (إحياء) الثقافية، يمكنكم تحميل أعداد المجلّة من (هُنا)