
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي الزهراء محمّد وآل بيته الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
أزقة القلب مُظلمة، والعروش خاوية، والأشباح تعتلي القبور!، عظيمٌ هوَ هذا المَنظر، ففي كلّ زاوية هناك أشلاء مُلقاة على قارعة العشق، هوَ عشق الإسلام العظيم، هي ذكريات لا تكتفي بالبقاء بينَ دفّتي كتاب، فأحضان الكُتب لا تتسع لكل هذه الذكريات لتبقى إلا مستيقظة، مُتقدّة، كشُعلة نار تخترق الحُجب لتصل إلى العقل وتُطلق صرختها الأوفى، لبيكَ يا إسلام.
ساعات تُبتَلع، ساعةً تلوَ الساعة، والحُمّى تتسرّب إلى البدن كما يتسرّب الماء تحت صخرة في نهر، هذه الحُمّى تذيب الملامح، وتصفع الجباه، وتركن إلى عموم معشر الدّم!، هي ليستْ خرساء ولا صمّاء، فأنينٌ يصدرُ من صدره، ولون أصفر يُرى من فوق شاهقة القنا!، والأيام تمرّ مُرور الغيوم ولو تباطأت، إلا أنّ اللمسات تُحرقه، والنظرات تسقيه لوعة وفراق، وفي السماء اصطفّت القيثارات لتعزف لحن الوداع الأخير، ويُملأُ هذا اللحن بترانيم ربّانية، وضلعٌ نُحت في صدر السماء المُظلمة بدأ بالنضج، ولكنّه دامي في السابع من شهر صفر.
عطرٌ لا يُكتفى منه، وقلبٌ لا مثيل له، مُرهف، يقرأ الشفاه الذابلة الصامتة، ويشعر بالشتات الذي ستعيشه، يرى أجنحة السياط ترتقي الأبدان، ينظر إلى كلّ لحظة تكون فيها زينب -عليها السلام- مَسبية، وكلّ ثانية تُطعن فيه أحلام الطفولة، وتُنسج فيه الثياب من الدموع المُنهمرة على جسدٍ قُطِّعَ جانب نهر العلقمي.
خيوط الضباب، وستائرُ الحُزن، وكبد تمزّق لتبقى راية الإسلام، ليلة طويلة وألمها عميق، وكلّ الأوجاع تقفز لتحتَل مجموعة كراسي المُقدّمة، إلا أنّ ألم هذه الليلة يخترق كلّ شيء، بارعٌ جداً في استحضاره -عقلي-، يَتفننُّ هذا اليوم بتعذيبنا، فالكلمات كالطلاسم، والحروف تختبئ تحتها ألف ألف كلمة، دثّريني يا كلمات أو افتحي الأضلع لأحتضن قلبكِ، فالرياح عاتية، وباردة كالزمهرير، وأتمنّى الموت من شدّة الاختناق البارد!.
لم يكن الهدف، مُلك أو كُرسيّ رفيع في البلاد، بل كان لابُدّ لراية الإسلام أن تعتلي وترتقي كافّة المنابر، فهناك في الشام أعواد ارتُكبَت باسمها الخطيئة وكم كانت هذه الخطيئة عارية، مُكدسّة الأحقاد، ولا يُمكنها أن تئدُ الصرح العظيم، بل كان الحَسن بن علي -عليهما السلام- هُو الإعصار الذي مرّ على قرية ميتة فأحيا كلّ ما فيها!، لا يُمكن للإسلام أن يحتضر، فللبيتِ ربٌّ يحميه.
معركة دارت رحاها في القرون الأولى، بينَ هابيل وقابيل، وسقى قابيل الموت لأخيه وصعق الدُنيا بمثل هذا الجُرم، ومنذ تلك اللحظة والشوارع تُقاسَم بين القاتل والمقتول، بين الحقّ والباطل، لا يُمكن أن يكونا في الجنّة!، فالقاتل والمقتول ما بين الحقّ والخديعة، والمَكر يجثو على ملامح المُرتحلين إلى النار، أنشودة الغَضب ستُعلنُ في آخر الأيّام، فانتظروا عند ذلك القبر وشاهدوا تلكَ المَحنية ظهرها المَكسور ضِلعها.
قبر، هذه الكلمة تؤلمني، فهذياني لا يسمح إلا أن يكتب ضريح، والأرض بطغيان بنيها تَرفض مثل هذه الكلمات!، أعتذر، مُشاهداتي مُختلفة، أرى ضريحاً تعتليه قبّة شامخة ترتفع عالياً، إلا أنّها تُطأطئ لقبّة الرسول الأعظم -صلى الله عليه وآله-، والسهام خُلِّعَت واستبدلت بالورود، والدماء السائلة فوق الكفن، عُظّمت، ألا ترون كلّ هذا، أراه في المدينة المُنوّرة في البقيع الغرقد، إلا أنّ هناك من تَعتلي بغلة، لستُ أدري ماذا ستصنع!؟.
××
قال الحًسين عليه السلام
أَ أَدْهُنُ رَأْسِي أَمْ تَطِيبُ مَجَالِسِي — وَ رَأْسُكَ مَعْفُورٌ وَ أَنْتَ سَلِيبٌ
أَوْ أَسْتَمْتِعُ الدُّنْيَا لِشَيْءٍ أُحِبُّهُ — أَلَا كُلُ مَا أَدْنَا إِلَيْكَ حَبِيبٌ
فَلَا زِلْتُ أَبْكِي مَا تَغَنَّتْ حَمَامَةٌ — عَلَيْكَ وَ مَا هَبَّتْ صَباً وَ جَنُوبٌ
وَ مَا هَمَلَتْ عَيْنِي مِنَ الدَّمْعِ قَطْرَةً — وَ مَا اخْضَرَّ فِي دَوْحِ الْحِجَازِ قَضِيبٌ
بُكَائِي طَوِيلٌ وَ الدُّمُوعُ غَزِيرَةٌ — وَ أَنْتَ بَعِيدٌ وَ الْمَزَارُ قَرِيبٌ
غَرِيبٌ وَ أَطْرَافُ الْبُيُوتِ تَحُوطُهُ — أَلَا كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرَابِ غَرِيبٌ
وَ لَا يَفْرَحُ الْبَاقِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى — وَ كُلُّ فَتًى لِلْمَوْتِ فِيهِ نَصِيبٌ
فَلَيْسَ حَرِيبٌ مَنْ أُصِيبَ بِمَالِهِ — وَ لَكِنَّ مَنْ وَارَى أَخَاهُ حَرِيبٌ
نَسِيبُكَ مَنْ أَمْسَى يُنَاجِيكَ طَيْفُهُ — وَ لَيْسَ لِمَنْ تَحْتَ التُّرَابِ نَسِيبٌ (*)
××
عظّم الله لكم الأجر في ذكرى استشهاد فخرنا وإمامنا الحَسن بن علي عليهما السلام
—————————————————
(*) المصدر: بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 44 / 160، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة: 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .