خواطري

صوت الماضي المُمتد، البقيع

ما إن ندخل من البوابة الكبيرة حتّى نشعر بأننا انتقلنا من الصحو إلى الغياب!، تطأ أقدامنا ساحات البقيع الغرقد فننتقل إلى الماضي بآلامه، وعقولنا تتملّكها الأحزان وكم هيَ هذه الأحزان غريبة، فغالباً ما إن نمسح دموعنا بأرداننا بحثاً عن الصبر، نسقط مُتناسين كلّ شيء، إلا في حالة الحُزن السرمديّ الذي كُتب على مُحبّي النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فهذا النوع يخطفنا من مضاجعنا، يُعلن حالة البُكاء في ساعات مُختلفة، وعجلة الدهر تطحننا بلا هوادة، نسمع صوت المقبرة، أنينٌ لا ينقطع.

أما نحن فلا نزال ننزف منذ الطعنة الثانية، منذ عام 1344هـ حين هُدمت قباب البقيع الغرقد، ولا يرغب بعلاجنا أحد، فنحن مُجرّد كائنات تُحسب أنفاسها فوق هذه الأرض المُتعبة، وتلاحقنا الذئاب بحثاً عن قطعة لحم تقتطعها منّا، وتترك فُتاتنا لضباع البشريّة، مُجرّد كائنات ضعيفة في عالم الجبروت، ورغم كلّ هذا إلا أننا لا نزال نبحث عن النور –وإن طال بحثنا- ولن نتوقّف، فنحن لا نزال نؤمن، ولا نزال ننزف!، ولا تزال قلوبنا ضعيفة أمام منظر اللباس الصحراوي الذي أُلبِس جنّة البقيع في وقتٍ ما.

البقيع هوَ التأريخ الماضي الذي يأتي منذ آلاف السنين ليبقى شاهداً على الظُلامات التي حصلت في ذلك الزمن، يركض إلينا دون خوف، يمتلك كلّ الشجاعة ليقول بأنني أحتضن بدن الإمام الحسن المُجتبى (عليه السلام) حفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما أنني أحتضن مجموعة عظيمة من عُظماء الاسلام، ويرمي بكل التاريخ في وجوهنا، بكل فخرٍ واعتزاز يُعلن أنّه يحمل جسد أُم الإمام علي (عليه السلام) مولاتُنا فاطمة بنت أسد (عليها السلام)، ولا يرتعد البقيع خوفاً كما صنعنا في زمنٍ ما، بل يعلن أنّه باقٍ وكلّهم راحلون إلى مكانٍ ما.

لن نقوى نحن على البقاء على قيد الحياة إلى الأبد، ولكن هُناك أجزاء تبقى منّا، أحياناً تكون حُروفنا، وأحياناً أخرى تكون أفكارنا، ولا يُمكن لهذه الأجزاء البقاء إن كانت لغتنا ضعيفة، وإن كانت أخلاقُنا سيئة، بل علينا أن نكون شيء آخر، شيء يمتلك عزيمة التاريخ في حضوره، ولغة الاعصار في سطوته، وأخلاق الإنسان العُظمى، شيء مُختلف بحضوره يتغيّر كلّ شيء.

كُلّي أمل، بأن تعود البقيع جنّة تُجاور القبّة الخضراء العظيمة، قُبة النبي الأعظم مُحمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله)، كُلي أمل ..

أفكاري, خواطري

هدم البقيع، يومٌ فجيع .. !

كلّ يومٍ يتجدد الألم المزروع فينا ويكبر، فنجرّ أذيال الهزيمة، والخيبة تعانق وجوهنا المليئة بالحُزن، إنها الحكاية القاسية في حياتنا، هيَ حكاية ذُلّنا التي أنبتت أنيابها في عقولها وقلوبنا منذ ١٣٤٤هـ، وإلى اليوم نحن نعيش أقسى أنواع الحرمان، فإننا جميعاً نتمنّى الوصال إلا أنّ هُناك زبانية يقفون على بوّابة الرّحمة، يُجرّحون كلّ قلبٍ سعى للوصول للقاء أحبابه.

نصرخ في وجه الكون، ولا يسمعنا أحد، لأننا أضعف من أن نصرخ! فصُراخُنا يتمثّل في صمت مُريب، ننتظر الخلاص وانقاذنا من طُغيان أنفسنا المُتقاعسة التي تأمرنا بأن نكون مجرّد كائنات تنشر في الأرض الخضوع، وكأنّها تحتاج إلى المزيد!، إنّ انحدار الأمّة ازداد منذ ذلك اليوم المشؤوم الموسوم بالثامن من شهر شوّال، حيث تمكن المجرمون من هدم قباب مقبرة البقيع، وتمكنوا من ازالة كلّ معالم الفخر في تلك البقعة، إنّهم لا يفقهون أنّ تُراثنا الإسلامي أكبر من ذواتهم.

الطرق امتلأت بالفاقدين، والأرصفة امتلأت بالدموع المُتناثرة بعد بُكاءٍ مرير، وأوراق الأشجار لا تغطّينا بدفئها المُعتاد، فكلّ الفصول أصبحت بلا تغيير، إنها مُجرّدة من الأحاسيس، أصبحنا نمشي في المُدن كالمجانين، نترنّح نبحث عن معشوقٍ لا نظير له، وحبيبٍ لا مثيل له، لنبني معه تلك القبّة الذهبية التي ستعانق السماء إن شاء الله، ونزحف في ذلك اليوم إلى المدينة المنوّرة كما نزحف إلى كربلاء، لنُشاهد قبّة الحبيب صلوات الله عليه وقبّة الحسن بن علي (عليه السلام)، ونطوف فيما بينهما نبحث عن قبر ضاع في لجّة ظلام أعيننا.

لا تظنّوا أننا سنتخلى عن البقيع، فهوَ محفور في قلوبنا، إلا أنّ الخُذلان أكل منّا ما أكل، وصنع فينا ما صنع، لا تظنّوا أننا نسينا هذه البقعة المباركة، فهي أرضٌ تشرّفت بأقدام النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله)، لا تظنّوا أننا سنبقى مكتوفي الأيدي، فإنّ لنا ناصراً سيظهر، وسيمحق الظَلال والظَلام، وسينثر النور، وسيقف الطُغاة مذهولين، من عظمة ما سنصنع في تلك الأرض، سنبكي ونسقي نعش الحسن (عليه السلام) بالدموع لا كما سقته الخونة بالسهام، وسنضع الورود فوق المرقد، ونُقرّ عين الحُجّة (عجّل الله تعالى فرجه)، وستكثُر أنغامنا بين شفاهنا ونُسمع العالمَ دويّ اسم الحسن (عليه السلام)، ونرسم لوحة عشق لا مثيل لها.

لا تظنّوا أننا لن نقيم ذلك العزاء المركزي في ليلة استشهاد الحسن بن علي (عليه السلام) وفي بقعة البقيع المقدّسة، ونطلق تلك الآهة التي تُخرس الليل، وتُرهب الشامتين، إلى متى والدنيا تقسو على شيعة عليّ؟ إلى متى ونحن ننتظر الخلاص أو الموت، ألم نتعلّم سابقاً، أنّ البدايات هيَ أُمّ النهايات؟ إلى متى والبقيع مهشّم الأضلاع، كصحراء مُقفرة؟.

كلّ شيء ينتظر الشهقة الأعظم، والصرخة الأبهر، لابُدّ أن تُشرق الشمس بعد نهايات الليل الطويل، لابد وأنّ يُجاب الدعاء في يومٍ من الأيّام، ولن ننسى (البقيع الغرقد) في كلّ لحظة من لحظات حياتنا.

××

شاهدوا هذا الفيديو، لتعرفوا الجريمة العُظمى في حقّ البقيع ..

httpv://www.youtube.com/watch?v=H8qnKlViq8k