أفكاري

نيرانٌ مُمتدّة من عاشوراء

لا زلنا نسمع صوت حوافر الخيل وهي تطحن صدر الصحراء، كما أننا ننصت لصوت الُبكاء الذي يدوّي في كل مناسبة، تصلنا هذه الأصوات وهي مُثقلة الدم، منهكة من المسير عبر صفحات التاريخ القاسية، تتكئ على بوابة قلوبنا مُمزّقةً كل صمتٍ مُغطى بحلة من السكينة، كل هذا الحضور يوقظ فينا الأمس البعيد. صاعقة أم ذكرى؟. حضور يُشبه المطر الدامي ذلك الذي انهمر في العام الذي قُتل فيه آخر الأسباط. آخر الأحياء من أبناء خاتم الأنبياء والمرسلين من ربّ السماء والأرضين مُحمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله)، ماضٍ مُغطّى بالجُثث المُقطّعة؛ غرس نابه في عقل صغير كَربلاء العظيم .. باقرُ علوم الأولين والآخرين محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، يُنقل لنا عبر كلمةٍ من كلماته، عبر دمعة تُخرس الألسن، حارقةٌ هيَ.

جُرعة من الأسى النابت في خاصرة التاريخ، نعبُّها بلا يأس، كأننا كائنات تتنفّس الأحزان، لا يهزمنا هذا الشجن، نصرعه في كُلّ حين، لأننا أبناء الإمام الباقر (عليه السلام)، أبناء من مشى فوق جمر الخيام، فوق أشلاء القتلى، هارباً من نيران ساحة الطف. لم يشعر إمامُنا الباقر (عليه السلام) بالغُربة أبداً، فحُضور كربلاء في ذهنه فتح نافذةً أبديةً اتجاه جدّه الحُسين (عليه السلام) فقال: “لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين (عليه السلام) لماتوا شوقاً -أشواقاً- وتقطّعت أنفسهم -أنفاسهم- عليه حسرات” كان يَرى بعين الإمامة، بعين القَداسة. رسم خارطة درب المُحبين، الباحثين عن المحبوب، وأطلق نداءه الخالد .. “لماتوا شوقاً” هكذا كان. يتقطّع اشتياقاً لجدّه المُرمّل بالعراء.

امتدّت نيران خيام بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتُلاقي إمامنا الباقر (عليه السلام) لكنّها هذه المرّة استعرت في كبده، تسجّرت لتفتت أحشاءه وتقصيه عن وجه هذه الدُنيا، نارُ السُم .. لا تُخمدها الدموع، ولا المياه. بل .. يُسكنها الموت، الذي ينقلنا من دار الفناء إلى دار الخلود. هكذا التقى من بقر العُلوم بقراً وفجّر أنهار الفِكر الإسلامي الذي حاول اخماده طُغاة التاريخ، التقى بجدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهوَ مسمومٌ يحمل في قلبه ذكرى عاشوراء.

××

رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى بعترته، فقُتِلَ من قُتل، وأقصيَ من أقصي. كيف كان الأمر سيكون إن لم يفعل؟.

أعمالي

ضلعٌ أخر .. في بغداد.

بالأمس.

بُكاء، وصوتٌ مبحوح. ينطلق موكب المفجوعين بفقد حبيبٍ من الأحبّة، يتعثرّ صُراخهم بالأسى، وتتفتّق قيمة الحِرمان في قلوبهم، ويبدأ سرير العُبور إلى العالم الآخر بالارتفاع فوق الرؤوس، وبأيديهم شموع تكوّنت من دموعهم، يطوفون بغداد بحثاً عن مقابر قُريش حيث دُفن “الإمام موسى بن جعفر”، حيث يجب أن يكون محبوبهم المسموم، حيث يجب أن يُودع هذا الجسد الطاهر، هذا الجسد الذي تُرك وحيداً يُعاني فتكَ السُّم، هذا الجسد الذي تفتت كبده، ولم يُروى بشربة ماء، هذا الضلع الذي هوَ من ضلوع فاطمة.

بغداد لم يُراودها النوم في الـ 29 من ذي القعدة في العام الـ 220هـ، فالسماء غاضبة، والأرض مُشتعلة، ففي ذلك اليوم قُتل المُبعَد عن مدينة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الساكن بغداد، لم يتلوّن الليل في ذلك اليوم، اكتسى حُلة السواد، فالإمام التاسع مُحمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم جميعاً السلام)؛ الإمام الجواد ارتحل ولم يُكمل عامه السادس والعشرون لم يُكمل رحلة حياته، أيَ غيرةٍ كانت، أي حِقدٍ غُرس في قلوب القَتلة، سميّ رسول الله قضى مسموماً، وحيداً بعيداً عن عشيرته.

-لهفي على المكسورة الأضلاع- تناثرت ضلوع من فاطمة الزهراء (عليها السلام) في كُل بقعة من بقاع ما يُسمى بالبِلاد الإسلامية، وفي كُل حين تُكسر، ويسمع العالم أجمعه صدى الكسر، تارةً بالسيف وتارةً أخرى بالسُّم، ما ذنبها؟ ما ذنب أبناؤها؟ حاول القوم بترهم، إلا أنّهم كانوا يورقون في كُل حيل ألف ألف زهرة فوّاحة، بسم فاطمة الزهراء كانت البداية، ومن أجلها تكون النهاية.

××

اليوم.

أمسكت قلبي، أمسكته كما لم أمسكه مسبقاً، وجدته ينبض بحرارة، يعتصِر وينتفخ، يبث شكواه بلا تَردّد، يحدّثني، يحرّكني اتجاه مُصيبة عاشوراء، ففي كُل إمام نجدُ أثراً للحُسين (عليه السلام) وفي كُل حدث مُشجي نجد عاشوراء حاضرة بكاملها. جَرحٌ ولا ضماد غير الدمّ المتجلّط فوق الوديان الدامية، عجزٌ وبُرودة تَتَّكِئُ على خاصرة الزمن، فالفارق أعوام وأعوام، إلا أنّ الفاعل لا يتنفّس إلا لُغة الموت والقَتل.

شهقة الموت الأخيرة، دائماً ما تُثيرني هذه التفاصيل، تُحفّزني اتجاه الكتابة، في أيّ اتجاه كانت؟ كلمة الرحيل ماذا كانت ولمن؟ إلى أيّ الديار وجّه نداءه الأخير؟ هل كانت نظرةً باتجاه النجف الأشرف ونداء “شهر عن سلمان وتعنّيته” أم كانت اتجاه كربلاء المقدّسة ونداء “أنا لا أنسى الحُسين وهوَ دامي الودجين” أم كانت أعمق بعُمق كَسر ضلع أمّه فاطمة الزهراء “شلون أنسى فاطمة وكسر الضلع؟”، هل كانت عمّته “زينب” حاضرة في كلماته الأخيرة؟ أم حضرت عمّته “رُقيّة”؟ إلى أينَ سيّدي كُنت تتجّه بكُلّك؟ يا باب المُراد.

××

عظّم الله أجورنا وأجوركم بذكرى استشهاد الإمام الجواد (عليه السلام)، ونسأل من الله أن يرزقنا في القريب العاجل زيارته وفي الآخرةِ شفاعته.

ضِلعٌ آخر من ضُلوع الزهراء كُسر في بغداد ..

 

أعمالي, أفكاري, خواطري

زينب.

زينب. اسمٌ جدير بالبُكاء.

زينب. حُروف النِياحة حُروفها. في حرف الـ “ز” سوطٌ تُمسكه نُقطته التي تعتليه، سوطٌ يمتَد من تلكَ الصيحة التي ظهرت بالقُرب من قَبَسَ النيران: “وإن!” وصولاً إلى وادي الطفوف جالداً “كبرياؤها” مستبيحاً لمسٌ نقاط “الياء” في رسم اسمها، متجرّداً من كُل اشفاق، فاسم زينب تارةً يكون مرثيةً حزينة، وفي تارةٍ أخرى يصبح انتفاضةً لا قوّة تحتويها.

زينب. ما أن تُكتب حتّى تجزع الحُروف وتتجرّد من ثياب صبرها. تسكن في وسطها “نُ” تلكَ التي “يصفعون”. نونُ اسمها يحمل جُرحاً غائراً في انحنائه، يعبث بأوتار القلوب، يرجُّ قارئيه، يؤذي الصامتين. زينبٌ هوَ الاسم الأوّل من أسماء الكمد، هوَ بوابة أولى لكربلاءْ الشَجَنْ.

زينب. أصوات، نيران، أطفال، نساء، وإمام. غاصوا في حِمى “ب” اسمها المُبجّل. “باؤها” تحمل في طيّاتها “نقطة البداية” وهيَ آخر الحِكاية، مع انقضاء نُطق اسمها، حتّى نبدأ بشُرب كأس الردَى. نبحث عن سبيل عن الارتقاء والوصول إلى سرٍ واحد من أسرار حُروفها المُدرّة للدماء، ولا نصل.

عند أقسى منعطفات الدهر تجدها هُناك شامخة لا تُشبه إلا “علي” ذلك الساكن في باءَ البسملة، لا تنحني إلا لله في صلاة الليل، لا تنثني فهي من نقش في قلبها حِرز “يا حبيبي يا حُسين، نورَ عيني يا حُسين”. زينب بنت عليّ، بنَت بيتاً للأحزان في قلب كُل من قرأ/سمع اسمها، وتزيّنت هذه البيوت بدموعِ كُل هائم بذِكْرِ حبيبها .. الحُسين.

زينب. تستحق الروح ولا أقل.

الراحلون عنها لم يعودوا، لذا قرّرت هيَ أن ترحل إليهم، باحثةً عن تلك الكفوف المقطوعة، راغبةً بتضميدها بخيوطٍ نسيجها من آلامها، رحلتْ. وفي قلبها نزيف من دماء عاشوراء، رحلتْ لتَسكن في أعلى عليين.

زينب. روحُ الجَزع في ثوب بشر.

زينب. مُعتّقٌ هوَ دمعها، أوليستْ هيَ “سادس/أوّل” البكائيين؟ أوليستْ هيَ منْ “وزادت البنت على أمّها”!، أوليست هيَ “من دارها تُهدى إلى شرّ دار”؟.

أفكاري

إلى ابني (علي) ..

رزُقت في شهر الله بابن أسميته (علي) وقبل أشهر كتبت (رسالة) وجّهتها إليه حتّى قبل معرفتنا أنا وزوجتي بأي معلومات عن وجوده في عالمنا، وهذا أنا ذا اليوم أرسل له رسالة أخرى، وهذه المرّة رسالة  في يوم استشهاد سيّدي ومولاي أمير المؤمنين إماميَ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذه رسالة لكل أطفال العالم الذين سيأتون لاحقاً ويتمسّكون بحُب عليّ (روحي فداه).  أكمل قراءة المقالة ←