خواطري

كثير من موت.

يرحل الشُهداء، ويتبقّى لنا في هذه الدُنيا الشعور بأسى الفُراق، يائسين من لقائهم في هذه المسكونة، نبحث عنهم في أحلامنا، أما في عالم اليقظة فلا ننتظر إلا أن يتواجدوا في حياتنا عبر صورة، كلمة، رسالة، فيديو تمّ تسجيله مُسبقاً، يرحل الشُهداء إلى بارئهم، وتبقى اللغة مُعنا، اللغة التي نُعبّر فيها عن عظيم الألم!.

تجلس بالقرب من القبر. أُم. تبحث عن رائحة كانت تسكن منزلها، تبحث عن عين كانت تلتقي بها في كُل صباح ومساء، تبحث عن كلمة “يُمّه” التي يخشع قائلها تَذلّلاً وحُباً. تجلسُ بالقرب من القبر، أم الشهيد، تستنطق التُراب، ولا ينطق، تحرّك الرمال بيدها العارية من كُل زينة ولا تستجيب الرمال. فالأرض التي ابتلعت طفلها الذي كان يحبو فوقها يوماً ما لا تقدر على مقارعة دموع الأم، تختار الصمت.

ماذا صنعت الأرض؟
احتضنت الأرض كُل ذرّاته، لم تُبقي شيء، لأم الشهيد الجالسة بالقرب من القبر.

××

مبعثرين، لا نستطيع لمّ شتاتنا، فها هوَ طُفل يُلحد، وها هوَ شابٌ يُدفن بالقرب منه، هذا جدٌ وأب يتمّ إنزالهما ليسكنوا التُراب، هذا يبكي، وذاك يئن، وهُناك صوتٌ العويل يعتلي، لا شيء يُشبهنا .. نغبط الشهداء، نَسعد من أجلهم. إلا أننا نلعن قاتلهم ليلَ نهار. بعثرنا هذا الكثير من الموت، انتزع الصبر من قلوبنا، منذ ألف عام بل وأكثر، إلا أننا نتسلّح بالدعاء والانتظار.

ما الذي يقتلنا؟
كلمة، حرف، نص، كتاب، فيديو، تصريح، صورة، رسالة نصيّة، شعر، خِطاب جماهيري، … تقتلنا بشكلٍ من الأشكال. –أترك الفهم للقارئ لثقتي الكبيرة به-

××

عظّم الله لكم الأجر يا أهالي شهداء تفجير مسجد الإمام علي (عليه السلام) في القديح، ساعد الله قلوبكم وأعانكم على مصابكم الجلل.

يعجز القلم عن الوصف، يعجز القلب على البوح بمكنوناته، فالعُذر كُل العُذر، وأسأل من الله لنا ولكم حُسن العاقبة وثبات القلوب يوم تقلّبها.

لماذا كتبت؟
لأنني عاجز عن الكثير.

أعمالي, أفكاري, خواطري

زينب.

زينب. اسمٌ جدير بالبُكاء.

زينب. حُروف النِياحة حُروفها. في حرف الـ “ز” سوطٌ تُمسكه نُقطته التي تعتليه، سوطٌ يمتَد من تلكَ الصيحة التي ظهرت بالقُرب من قَبَسَ النيران: “وإن!” وصولاً إلى وادي الطفوف جالداً “كبرياؤها” مستبيحاً لمسٌ نقاط “الياء” في رسم اسمها، متجرّداً من كُل اشفاق، فاسم زينب تارةً يكون مرثيةً حزينة، وفي تارةٍ أخرى يصبح انتفاضةً لا قوّة تحتويها.

زينب. ما أن تُكتب حتّى تجزع الحُروف وتتجرّد من ثياب صبرها. تسكن في وسطها “نُ” تلكَ التي “يصفعون”. نونُ اسمها يحمل جُرحاً غائراً في انحنائه، يعبث بأوتار القلوب، يرجُّ قارئيه، يؤذي الصامتين. زينبٌ هوَ الاسم الأوّل من أسماء الكمد، هوَ بوابة أولى لكربلاءْ الشَجَنْ.

زينب. أصوات، نيران، أطفال، نساء، وإمام. غاصوا في حِمى “ب” اسمها المُبجّل. “باؤها” تحمل في طيّاتها “نقطة البداية” وهيَ آخر الحِكاية، مع انقضاء نُطق اسمها، حتّى نبدأ بشُرب كأس الردَى. نبحث عن سبيل عن الارتقاء والوصول إلى سرٍ واحد من أسرار حُروفها المُدرّة للدماء، ولا نصل.

عند أقسى منعطفات الدهر تجدها هُناك شامخة لا تُشبه إلا “علي” ذلك الساكن في باءَ البسملة، لا تنحني إلا لله في صلاة الليل، لا تنثني فهي من نقش في قلبها حِرز “يا حبيبي يا حُسين، نورَ عيني يا حُسين”. زينب بنت عليّ، بنَت بيتاً للأحزان في قلب كُل من قرأ/سمع اسمها، وتزيّنت هذه البيوت بدموعِ كُل هائم بذِكْرِ حبيبها .. الحُسين.

زينب. تستحق الروح ولا أقل.

الراحلون عنها لم يعودوا، لذا قرّرت هيَ أن ترحل إليهم، باحثةً عن تلك الكفوف المقطوعة، راغبةً بتضميدها بخيوطٍ نسيجها من آلامها، رحلتْ. وفي قلبها نزيف من دماء عاشوراء، رحلتْ لتَسكن في أعلى عليين.

زينب. روحُ الجَزع في ثوب بشر.

زينب. مُعتّقٌ هوَ دمعها، أوليستْ هيَ “سادس/أوّل” البكائيين؟ أوليستْ هيَ منْ “وزادت البنت على أمّها”!، أوليست هيَ “من دارها تُهدى إلى شرّ دار”؟.

خواطري

سامرّاء .. والانفجار

#ليلة الانفجار

كانت المدينة نائمة، رغم كُل أشكال الرُعب الذي يسكن العراق، رغم البشر المُفخخين بأفخم أنواع المتفجرّات التي تُصنع منزلياً بتمويل دولي، وكُل أنواع الاختطاف والتعذيب لمجرّد الاختلاف في الانتماء الطائفي، أو حتّى الفكري، رغم كُل هذا الجنون الذي يخطف الأحباب من بين الأيدي فجأة ودون سابق إنذار، إلا أن المدينة في ذلك الوقت كانت لا تزال نائمة.

#يوم الانفجار

أن تستيقظ على صوت انفجار ذلك أمر طبيعي في مُدن العراق، لكن المؤلم هوَ أن تستيقظ وتُشاهد قُبّة مرقد الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام) وهيَ مهدّمة، ولا شيء يشكّل قبّة .. لون رمادي قبيح يعتلي صدر السماء، وكان الانفجار بفعل أناس ارتدوا الزيّ العسكريّ وقيّدوا من يعمل في المرقد وشرعوا بتفجير أحد أكبر قباب المساجد في العالم الإسلامي أجمع، تلك القبّة المُذهّبة الجميلة، لم تكن تلك القبّة تؤذي أحد، كانت تعتلي المرقد وتشير لهيبة المدفونين في تلك البقعة المباركة، إلا أن البعض ولمرض متجذّر في قلوبهم باركوا هذا الفعل آنذاك في عام 2006م. ومنذ تلك اللحظة وإلى الآن ونحن نشاهد اعتداءات مُختلفة على المراقد المقدّسة لدى الشيعة، تفجير. تخريب. قتل الزائرين وغيرها من أفعال تستحق أن تُدان عالمياً، إلا أنّ البعض فعلاً سعيد بما يحصل لكل هؤلاء البشر بل ويُشجّع على مثل هذه الأفعال الإجرامية فقط لأنّ الطرف الآخر لا يعتقد بما يعتقد هوَ، فقط لأنّ الكلمات تؤذيه فهوَ مُستعد لاستئصال فئة كاملة من مُجتمعه.

لعل أقسى صورة شاهدتها في تلك الذكرى الألمية هيَ صورة الجموع المتفجّعة بسبب هذه الكارثة التي حلّت، صورتهم وهُم يصرخون خارجين من جهة الضريح المقدّس، لستُ أدري إلى متى ونحن نصرخ الآلام؟!.

#ما بعد الانفجار

لم تعد الأمور ولن تعود إلى ما كانت عليه، فالنفوس مشحونة بدرجة كبيرة جداً، وعاد الانفجار مجدداً ليزور هذا المرقد الشريف في العام 2007م. ليُدمّر المنارات المرتفعة!، حرب البعض فعلياً هيَ حرب مع الله عزّ وجل.

ما بعد الانفجار أصبحت منطقة الشرق الأوسط أحد أسوأ المناطق في العالم أجمع، مُلتهبة، ارتقى الأمر من حوارات كلامية وإن كانت عنيفة بعض الشيء، إلى أمور أكثر عنفاً .. وصل الأمر إلى القتل والرغبة بالتلذّذ بالقتل، وأصبحت لغة الدماء هيَ اللغة الأسمى، وإلى اليوم ونحن نُعاني تبعات العنف البدني الذي يمارسه من يحمل فِكراً يبيح له قتل من يخالفه في المذهب أو الدين.

اليوم نحن نعيش لحظات عصيبة انطلقت من قبل الانفجار ونضجت في ليالي الانفجار وباتت الآن أكثر عدوانية.

#أخيراً ..

ستبقى دماء المظلومين شاهدة، ستبقى هيَ مُنتصرة وإن انتصر الطغيان لفترة من الزمن.

أفكاري, خواطري

عينُ البُكاء

هيَ عين البُكاء المُقدّسة، هي حُزنٌ تجسّد في هيئة إنسان، هيَ شيءٌ من نبيٍّ هوَ الأعظم، هيَ أختٌ للحسين بن علي (عليه السلام)، هيَ الزائر الأوّل لجَسَدٍ تقطّع وسكن أرض السواد، هيَ روح حكاية الطف العُظمى، هيَ الصوتْ الذي امتدّ من نحر الإمام الحسن (عليه السلام). هيَ عظيمة اسمها زينب.

هذه العظيمة هيَ من علّمتني أنّ الحياة مع الحسين (عليه السلام) هيَ الحياة الكاملة، أنّ البقاء بالقرب من الإمام هوَ البقاء الأجمل والأكمل على وجه هذه المعمورة، تعلّمت منها أنّ خدمة الإنسان لسيّد الشهداء هيَ الخدمة الأرفع التي تنتشل العباد من حالة وترفعهم إلى حالة أفضل قطعاً، بكاؤها .. درسٌ مُختلف عن هول الفاجعة، رعايتها لأطفال الإمام .. درسٌ في عالم الوفاء الذي لا حدود له، نطحها لجبينها بالمحمل .. رحلة في عالم حُب الحُسين (عليه السلام) الذي لم يكن له مثيل على وجه الأرض.

كم هيَ قاسية ذاكرة التاريخ، تفتح بوّابة الأمس البعيد في بداية شهر مُحرّم الحرام، تُثير الغُبار لنختنق بأحداثٍ كانت مُنعطف لا يُمكن تجاهله، إلا أنّها في الليالي العشرة الأولى من شهر محرّم الحرام تقسو بلا رحمة، تطعننا وتلوّن جدار الزمن بدمائنا التي تنفجر في فجر عاشوراء، في مثل هذا الليل يُنشر قميص الحُسين (عليه السلام) المُمزّق والمصبوغ بالدم، يُنشر فتهجم الأحزان علينا وتغزونا ونسأل من الله أن يفتّتنا الحُزن لنصل إلى كربلاء بأرواحنا التي تنتظر لقاء كربلاء في كُل حين، ونسأل من الله قلوباً تقوى على خدمة خدّام الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا الشهر الحزين، ونسأل من الله أن نبكي كما لم نبكِ في حياتنا كُلها، ونسأل من الله أن يُلهمنا الخدمة بأرقى أشكالها.

يا عشيرة آدم، إن الحُسين بن علي هوَ آخر ابن بنت نبيّ على وجه الأرض قُتِل في مثل هذا الشهر.

ونُحِرَ مسلوب الرداء!.