أفكاري

بين القهوة والفكرة والعمل الشبابي الرسالي!

تعلمت فنون صناعة القهوة قبل سنين والسبب يعود إلى زوجتي، حيث أنها اشترت لي هدية صانعة القهوة الشهيرة “نسبريسو” مع العديد من “كبسولات القهوة”، كانت تجربة مدهشة في بدايتها، لم أعتد صناعة القهوة في المنزل، الأمر كان غريباً فأن تُعد كوباً بضغطة زر فقط لهي ثورة على المقاهي كما كُنت أعتقد، إلا أن “سلام” صديقي وابن عمّة زوجتي -كذلك- كان متخصصاً في مجال القهوة، كان يشير إلى جمال تعلّم مهارات صناعة القهوة المختصّة، وأن العملية برُمتها فَن قلّ من يتقنه، في هذا الوقت تحديداً تعرفت مع أخي وعضيدي “يوسف” على مقهى “كافيين”، وقد تكون هُنا بداية القصة الخاصّة بصناعة القهوة المختصة معي على نحو جاد، فأن تأخذ رشفة من كُوب مُعد على وجه مُتقن يُمكنك فعلياً أن تنفصل عن اللحظة، أن تكون فقط مع المرارة التي تتسرّب إلى فمك، وتهرب لثانية أو ثانيتين من العالم لتكن وحدك مع هذا الطعم الغريب -أبالغ يا قرّاء الحرف-، بعد بضع سنوات من التعلّم المستمر لصناعة كوب القهوة المثالي وخوض بعض الدورات التي قادتني نحو فهم مدى اختلاف الروائح والأطعمة ومدى اختلاف طُرق التحضير، وحجم المتغيّرات، فعلى سبيل المثال لا الحصر: إذا أردنا كوباً متوازناً من الاسبرسو فنحن بحاجة لفهم نوعية البُن المستخدم ونوعية الماء وحرارته وحجم طحن حبوب البُن ومقدار الضغط المائي الذي يخترق البُن المطحون والوقت المخصص لهذه العملية، وهذه الأمور ليست معيارية تماماً، وهُنا المُدهش في الأمر، فكُل حبّة بن مُختلفة، وإن كان الحمّاص -وهوَ شخص مُختلف لا شأن لنا به- هوَ من قام بتحميص كامل الكميّة، نعم هوَ يُحاول أن تكون الكميّة كاملة متساوية لكن المشكلة تكمن في قدرتنا على ضبط كُل المتغيّرات على نحو متساوٍ كذلك نحن صانعو القهوة، ويُمكنني الجزم بأننا قلّ ما نتمكن من صنع كوب يُشبه سابقه. ولهذه العملية كاملة ارتباط وثيق بالعمل الشبابي الرسالي.

قبل سنين بدأت بالعَمل الفعلي في مجال العمل الشبابي الرسالي، يُمكنني القول بأنني الآن أمضيت ما يقارب الثلاثين عام من النشاط في هذا المجال، وإذا ما اقتطعنا السنوات التي توقفت فيها قسراً أو اختياراً فسنكون على مقربة من الخمس وعشرين عام، ولأصدقكم القول لم تكن رائعة، بل أكثر! هذه التجربة في هذه الحياة هيَ أعظم ما مررت به كإنسان، منذ السابعة من عُمري، وأنا على تماس بهذا النشاط، منذ الرابعة عشر من عُمري، وأنا عامل في هذا المجال، مررت على الكثير من الأشخاص الذين شكلّوا شخصيتي وصقلوها، مررت على إخوة وأحبّة بل يُمكنني القول بأن من احتفظت به من أصدقائي وأحببت، اكتشفتهم كجواهر في محيط هائل اسمه الحياة في مجال العمل الشبابي الرسالي كذلك مررت على الكثير من الشخصيات التي لا تستحق البقاء بالقرب منّي -بالمناسبة العمل الشبابي الرسالي لا يُشبه الحياة، بل هوَ حياة مُتكاملة، بأخيارها وأشرارها-، ولأنني ابن هذا العمل وأحد من يُحاول إلى اليوم تطويره ونقله إلى مستوى مُختلف عمّا هوَ عليه الآن، فإني سأبيّن هُنا وجه التشابه بين صناعة القهوة المختصة وصناعة الشباب الرسالي!.

لا يُمكنك التوقف هُنا فأنت تقرأ لأنك شغوف.

أولاً حتّى نقف في نفس المكان، فإني أقصد إذا قُلت العمل الشبابي الرسالي العمل المؤسساتي المُنظم المرتبط بالشباب وتكون غايته نشر رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) عبر صناعة الأجيال القيادية والمبدعة في شتّى المجالات.

الآن هل حقاً هذا العمل مُهم في عصر الرقمنة؟ حيث كُل شيء صار رقمياً ويُنشر بطريقة خوارزمية عبر مُختلف برامج التواصل الاجتماعي/ الإعلامي فما هيَ فائدة “هيئة/ ديوان – يجمع الشباب في يوم واحد ليقدّم لهم برنامجاً مُعداً” أمام سيل هائل من المحاضرات والألعاب والأفكار الموجودة أساساً عبر الإنترنت اليوم؟ هل تُريد أن تُشاهد سلسلة في العقائد؟ يُمكنك ذلك، هل تُريد أن تتعلّم تدبّر القرآن الكريم، يُمكنك ذلك، بالإضافة إلى هل فعلاً إيجاد “مُحيط” نَجمع فيه الشباب مُفيد؟ لا سيما أن الشباب المُجتمعين عادةً من بيئات متنوعة في المُجتمع، وخلفيات فكرية مُختلفة، ويُمكنني التطرّف قليلاً هُنا، هل يُمكننا حقاً تطوير شباب لا يُريد بنفسه التطوّر في مجال ما؟ لنعد إلى القهوة المُختصة الآن. 

على الرغم من سهولة إعداد القهوة عبر أجهزة الكبسولات، إلا أننا فعلياً لم نقترب من عالم صناعة القهوة المختصّة كثيراً، بل ابتعدنا وصنعنا ذائقة مُختلفة، على الرغم من ذاتية العملية إلا أنّك لم تكن بحاجة إلى تعلّم كيفية صناعة القهوة، فقط ضع الكبسولة التي اشتريتها من المتجر، وقُم بشراب ما تم إعداده لك، أما في عالم القهوة المختصة فأنتَ فعلياً تنتهي ما تُريد وتتعلّم من تجارب الآخرين، ولا تقف حيثما يقف الآخرون، بل أنت استمرار لعملية ضخمة جداً. وفي مجال العمل الشبابي الرسالي أنت فعلياً لا تعيد صناعة العجلة، بل أنت جزء صغير من العملية كاملة، وهيَ منظومة ضخمة جداً، فلا مقارنة بين النمو الذاتي -الشخصي- والنمو داخل مجموعة تتحرّك على نحو جماعي، الأمر هُنا شائك بعض الشيء، ومليء بالأخذ والرد ولكن تخيّل معي، نموَك الشخصي الذاتي داخل إطار يُمكنك فيه تضخيم هذا النمو بحيث يكون متصلاً مع مجموعة تُحبّها وتتمنّى لها الخير؟ أليست هذه الرسالية التي نحكي عنها هُنا؟ أن نقتدي بمن خرج لـ”يستنقذ عبادك من الجهالة”، كما أننا نؤمن حتماً باقتراب الموت منّا كلّ لحظة وعلينا فهم “ولا تفرّقوا” كرسالة سماوية ثقيلة مُلقاة على عاتقنا جميعاً لا فقط العاملين في مجال العمل الشبابي الرسالي. لأخبرك بسرٍ من أسرار تشابه صناعة القهوة المختصة مع صناعة الشباب الرساليين، قد تكون صناعة القهوة المختصة تمر بمراحل متعددة، بداية من البذور إلى الرعاية والقطف والتجفيف والتنظيف والتحميص والطحن والميزان والصناعة، لكن عملية بناء الشاب الرسالي تحتاج إلى كُل هذه الخطوات والمزيد فلا يُمكننا صناعة قائد رسالي ومفكّر مؤثر في معزل عن المُجتمع، وأي مُجتمع؟ المُجتمع الذي يجد فيه الصداقة والعلاقات النقيّة، التي تمكّنه من النمو بسلامة وبعيداً عن أدران المُجتمع العام، مع تماسٍ مباشر مع هموم الأمّة اليوم، فلا إفراط ولا تفريط.

هل يُمكننا البناء في هذا العصر المليء بِالدّمَار؟ 

قد تكون أهم مَهام العمل الشبابي الرسالي هيَ احتواء الشباب بمختلف مشاربهم ومُختلف أفكارهم ومُختلف أعمارهم وتشكيل بيئة صحيّة جاذبة لهم لتقديم المحتوى المفيد بعيداً عن “التفاهة والبلاهة المقدّمة عالمياً اليوم”. 

هل يُمكننا ذلك؟ هل هُناك جدوى؟ نعم لكن بشروط متعددة، منها: لا يُمكننا إهمال عنصر اللعب -مع هدفية التعاون والتأسيس لشخصية رسالية ذكية اجتماعياً عبر اللعب- ولا يُمكننا كذلك أبداً إهمال جوانب العقائد والفقه والتاريخ الإسلامي، فصناعة القادة والشباب ليست ورشة عمل، كما أنّها ليست عملية تحتاج إلى عشرة أيّام، بل العملية رحلة حياة ممتدة، علاقات متشعبة، وأفكار مختلفة، لنضرب مثالاً هُنا: 

لا يُمكننا تأطير العمل في مجال “الحوزة” فإن فعلنا فإننا نفينا الشبابية والرسالية فيه، ولتُغلق المؤسسات ولتندمج في الحوزات المباركة، وكذلك لا يُمكننا تعليب العمل في إطار اجتماعي بحت فالشاب ليس فقط رقم تتباهى به المؤسسات الشبابية الرسالية وإنما مشروع إنسان ريادي مبدع وقيادي قادر على ابتكار الحلول للمشكلات وقادر على تطوير محيطه. كما أنّ المؤسسات الشبابية الرسالية ليست محطّات للعب! فلا يُمكن أن يكون هذا الهدف لمؤسسة تبحث عن الرسالية، بل هيَ مؤسسة أعمق من كُل ما سبق وما سيأتي، ولنعد إلى بداية المقال تقريباً، هيَ فعلياً حياة مُتكاملة وخيوطها تمتد إلى كُل جانب، سنجد شاباً لديه ميول اتجاه الفقه أو العقائد وعلينا كعاملي دفعه دفعاً إلى هذا المجال الحوزوي المُهم، مع رعايته واستمرار التواصل معه ليصبح ما يُريد ونكون داعمين له، وكذلك في الجانب الآخر إن كُنا نمتلك لاعباً لرياضة ما لنقم بتشجعيه والسعي لنموّه فهوَ الشاب الرسالي الرياضي الذي سيتمكن من التأثير في نطاق مختلف عما يُمكنه ذلك الشباب الحوزوي، وهكذا بقيّة المجالات، فإن وجدنا شاباً لديه ميول نحو التصوير الفوتوغرافي فَعلينا إيجاد المساحة المناسبة له ونسعى في تطوّره ضمن خُطّة مخصصة له ليصبح فعلياً الرقم الأكبر في المجال، لتكن المؤسسات نقطة تأسيس وانطلاق واحتواء، لتكن منزلاً دافئاً تقدّم فيه القهوة المختصّة بذكاء. 

أمّا إذا كُنّا نريد إيجاد بيئة عظيمة للشباب فعلينا أن نعي أنّ العمل الشبابي هو علاقات شخصية لها حضورها الآني، فلا يُمكننا فصل العمل عن العلاقات بدعوى “العمل عمل والعلاقات علاقات” والعتب هُنا يجب أن يكون عتاب أحباب لا عتب مسؤول وعامل!، قد تكون أفضل المصطلحات التي تشرح حالة العلاقة التي يجب أن تؤسس عليها المؤسسات الرسالية هيَ “الأخوّة” بلا فهم ما هيَ هذه الأخوة لا يُمكننا التأسيس الحقيقي لجوهر هذا العمل، قد يُقال بأن العمل ضخم جداً في ظاهره، قد يُقال بأن العمل موجود ميدانياً، إلا أن عنصر “الأخوة” إن فقد فقُد طعم القهوة الحقيقي.

ما الأخوة التي أعنيها هُنا؟ باختصار جزء مما ورد عن المعصومين صلوات الله عليهم، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “استكثروا من الإخوان فإنَّ لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة”، عن الإمام علي عليه السلام: “يا كميل إن لم تحبّ أخاك فلست أخاه”، عن الإمام الصادق عليه السلام: “لكلِّ شيءٍ شيءٌ يستريح إليه، وإنَّ المؤمن يستريح إلى أخيه المؤمن كما يستريح الطير إلى شكله”، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا وإنَّ المؤمنَيْن إذا تحابَّا في الله عزّ وجلّ وتصافيا بالله، كانا كالجسد الواحد إذا اشتكى أحدهما من جسده موضعاً وجد الآخرُ ألم ذلك الموضع”، ولن أطيل هُنا فأحاديث الأخوة أكبر من أحصيها هُنا، لكنّها دستور فعلياً، فلا هجرة للأخ، كما أنها أخوة في السرّاء والضراء وعدم تحاسد وحشمة. 

اسأل نفسك فعلياً هل تعمل طوعاً في جماعة تكرهك؟ هل تعمل طوعاً في مجموعة مُغلقة ولا تودّك؟  

ختاماً

كما يُمكننا كصنّاع قهوة اختيار الممتاز من الرديء، يُمكننا كصنّاع محتوى العمل الشبابي الرسالي تمييز العمل الشبابي الرسالي الجيّد من الرديء، وكذلك يُمكننا فهم المعايير التي تجعل من القهوة كما نُحب، يُمكننا أيضاً الوصول إلى توليفة ترضي جميع العاملين. 

غالباً يُمكننا التفريق بين قهوة “صنعت بِحُب” وأخرى صنعت على عُجالة، أليس كذلك؟

نُشرت بواسطة حسين مكي المتروك

ضع تعقيباً ..