مذكرات

في البدء كان ..

*هذا المقال طويل بعض الشيء، وفيه الكثير من الحكايات الشخصية، لهذا أنصحك إن كُنت تود استكمال القراءة أن تطفئ التنبيهات في هاتفك، كذلك يُمكنك إعداد كوب قهوة والانطلاق معي في هذا المقال.

كان ياما كان في زمنٍ ما لم أكن فيه كاتباً، وأعاني فيه من فوبيا البدايات، لازلت أتذكّر حين انتقلنا من شُقتنا الصغيرة في منطقة “الجابرية” إلى منزلنا الكبير في منطقة “مبارك الكبير” آنذاك اضطررت مجبراً على الانتقال إلى مدارس المنطقة الجديدة، في تلك اللحظات كانَ لِزاماً عليّ التعامل مع الأرق الليلي الذي يسبق الاتجاه إلى الثانوية، التعامل مع الخوف المُصاحب لكل بِداية جديدة، فالأمر لا يعني اكتشافات جديدة فقط، بل يعني أنّه يجب عليّ التعامل مع شخصيات لم أعرفهم سابقاً حيث كُنت فيما مضى أنتقل برفقة أصدقائي من مرحلة إلى مرحلة دراسية لاحقة، أمّا الآن فعليّ البحث عن أصدقاء جُدد يمكنني الوثوق بهم، كذلك يجب أن أتعرّف على طبائع الآخرين في هذه المنطقة!، وبعض الأسئلة الأخرى التي كانت تلازمني في تلك اللحظات، وأعتقد أن قضية البدايات هذه بقيت تؤرقني إلى أن أصبحت كاتباً.

في البدء كان (مُنتدى!)

لم أتعرّف على كِتابتي إلا في عالم المنتديات، فقبلها لم أكن أمتلك تلك القدرة -بالمناسبة من يقدر على الكِتابة هوَ إنسان خارق-، لم أكن أكتب سوى الأحاديث المتفرقّة على برنامج المُحادثة الشهير آنذاك (MSN Messenger) والأشهر منه (MIRC) وهيَ أحاديث عابرة لم تكن ترقى لأن تكون مقالات، أو أفكار مُرتبّة، إنما كانت مجرّد “دردشة”، بل وكانت تحت مُسميات وهمية في أكثر الأحيان.

بعدها اكتشفت المُنتديات والتي أعتبرها إلى يومنا هذا أهم محطّة في عالم الإنترنت، فهيَ كانت عبارة عن تجمّعات بشرية ضخمة من كُل مكان، تجمّع يضم اختصاصات معينة، فلا يُمكنك أن تجد العشوائية اليت نراها في (تويتر، انستاغرام، فيسبوك – مثلاً-)، الأمر كان يقتصر على المُهتم، فلا يُمكن أن يسجّل شخص لا يُحب الكِتابة مثلاً في مُنتدى أدبي، أو أن يسجّل شخص لا يهتم بالتصميم الغرافيكي في منتدى متخصص في التصميم وأدواته، وأتذكّر أنني حاولت كِتابة بعض المقالات المدّعمة بالحُجج في بعض المنتديات، وبعدها جرّبت الكِتابة الأدبية التي تلامس الروح، وهيَ من أسرتني آنذاك.

ماذا عن مُدوّنة؟

عندما انتقلت للكتابة عبر المدوّنات، كانت المدوّنة المجانية هيَ الخيار الأمثل، فالتجربة هيَ من سيقودك إلى الاحتراف، لكن قبل الانطلاق والكِتابة باسمي الشخصي تساءلت كثيراً: من سيقراً؟ من سيهتم بما سأكتبه؟ هل هُناك حقاً من يقرأ المقالات عبر الإنترنت؟ وماذا سأكتب؟ فالكُتب قالت كُل شيء، والإنترنت مليء بالمدونات التي يُقال فيها كُل شيء كذلك!، كما أنني فاشل في الكِتابة فالقصص التي كتبتها في المدونات كانت غالباً تحت اسم مستعار كما أنّها مليئة بالأخطاء كما أتذكّر، يا ترى ماذا سيقول أهلي والأصدقاء؟ أنا أكتب المقالات! رغم أنهم يعرفون أنني مُهتم بالتقنية والتصميم الغرافيكي لا أكثر، وغيرها من أسئلة البدايات القاسية التي تظهر كوحش كاسح في كُل مرّة أفكّر فيها بالانطلاق في عالم جديد، لكن ..

أينَ هوَ المانع حقاً؟ -أعتقد هذا هوَ السؤال المجنون الذي أطرحه على عقلي في كُل تجربة جديدة- ما المانع من أن أكون مصمم، كاتب، ولاحقاً متحدّث؟ هل هُناك قانون يمنع هذه الأمور؟ أو جمعها في شخصية واحدة؟ نعم -قصّرت لاحقاً اتجاه المصمم لأسباب متعدّدة لها وقتها-، لكن أين المانع من تعلّم حِرفة الكِتابة عبر التدوين؟ ولمَ الأمر يبدو صعباً طالماً أنني أمتلك الوقت اللازم للكِتابة؟ كما أن الكِتابة لم تعد شغفاً بقدر ما هوَ حُب حقيقي، ينمو بالتواصل المستمر، لهذا قررت حجز اسمٍ خاص، وكذلك استضافة تصلح لمدوّنات ووردبريس التي كانت ولاتزال من وجهة نظري أحد أقوى منصّات الكِتابة عبر الإنترنت.

لاحقاً ..

أن تكون مبتدئاً في أمرٍ ما أجمل من أن تكون محترفاً أو خبيراً، لا أحد يُلاحظ الأخطاء، لا أحد يرغب بتحطيمك، أنت لوحدك في عالمٍ كبير، ولأنك مبتدئ فإنّك تجرّب وتُحاكي كُل ما هوَ موجود، لأنك بهذه الطريقة تكتشف الطريقة الأفضل بالنسبة لك، كذلك يُمكنك التعلّم بسرعة كبيرة لأنك فعلياً مبتدئ، تحاول ثُم تحاول ثُم تحاول إلى أن تصل إلى الطريق الذي يأخذك إلى الكِتابة المُنتظمة.

لا أحد يهتم بما تكتبه عبر الإنترنت، لا تقلق، لن ينقدك أحد، هذه الانتقادات التي تصل إليك هيَ لقرّاء قد يُكملون مسيرة القراءة لك، كذلك لأنّ كُل شخص يقرأ ما يهتم له، وكذلك يصنع ما يهمه، لن يلتفت لك أنت فقط، وهُناك آلاف الأفكار الغريبة التي تطوف عبر الإنترنت، أنتَ بالكِتابة عبر الإنترنت تصنع نفسك خارج محيطك الخاص، أنت تتواصل مع آلاف القرّاء والقرّاء المحتملين عبر النصوص فقط، هذه الميزة لم تكن متوفّرة لأغلب الكُتّاب سابقاً.

بعد الكِتابة المنتظمة عبر المدوّنة تعرّفت على الكثير من الأصدقاء في عالم الإنترنت، تعرّفت على كُتّاب مبدعين، على مفكرين رائعين، على ملهمين مثابرين في هذه الحياة، كذلك بدأت ببناء شخصيتي الكِتابية، وكُلما سقط في مشكلة اتجهت ناحية الكِتابة، أعترف أنني فشلت في الكثير من المشاريع في هذه الحياة، لكنّ -مُجدداً- لم أفشل في عالم الكِتابة، لم أتمكن من الفشل أساساً في عالم الكِتابة، لأنني أكتب لذاتي، لترتيب عقلي الخاص، لتنضيج أفكاري، لأكتب فقط لأكتب.

لم أعد أهاب البدايات، فكُل مقالٍ أكتب هوَ بداية، اعتدت الأمر، تغلّبت على هذا الأمر بالكِتابة، لم أعد سهل الكَسْر، فالكِتابة تسندي لحظة انهياري، لم أعد قادراً على ترك الكِتابة فهيَ دائي ودوائي.

في الختام

لا تخف من الكِتابة، بل كُن مُرتعباً من عدم القدرة عليها، فهيَ السبيل لتنظيم الأفكار، وهيَ السبيل لطرح الأفكار، وهي السبيل لشحذ الأفكار، ونحن نعيش داخل عالمٍ مليء بالأفكار، لا تهرب من الكِتابة لأنّها عصيّة، أكتب لأنك إنسان.

نُشرت بواسطة حسين مكي المتروك

‏8 رأي حول “في البدء كان ..”

  1. عدنان هاشم يقول:

    كنت و لا زلت شخص قوي بكل مجال تدخله .. كل التوفيق أبا علي

    1. حسين مكي المتروك يقول:

      كنت ولازلت صديقي الداعم لي في كُل المجالات يا عدنان ..

  2. هاشم الفيلي يقول:

    مقالة رائعة جداً

    1. حسين مكي المتروك يقول:

      حضورك رائع عزيزي هاشم

  3. 'فَاطِمَة يقول:

    النَّص وَالمقال الأعمَق هو الَّذي حينَ يقرأه الجميع؛
    يجدون في كلماتهِ جزءًا منهم،
    وَالكاتب في الوقت نفسه قد عبّر عمّا يُريد وَيشعر.

    مقال رائع، عاشت إيدكُم أُستاذنا..

    1. حسين مكي المتروك يقول:

      حضوركم مشكور .. خادمكم

  4. علي خليل ابراهيم يقول:

    جدا رائع ويعطي تحفيز للذين يخافون الكتابه وهم لديهم حس الكاتب فيجب عليهم صقل هذه الموهبه لانها ليست عند الكثيرين وجميل جدا عندما تقرأ شيء وانت تحتاج بان تقرأه من كاتب تحب كتاباته وتشعر انها تلامس القلب شكرا حسين المتروك على هذه الكتابات الرائعه

    1. حسين مكي المتروك يقول:

      من المُهم جداً أن لا تهابها، هيَ فعلياً قادرة على انتشالنا من حالة إلى حالة، فهيَ تفكير بصوتٍ مسموع.

ضع تعقيباً ..