أشدُّ الرِحال إليه، فمن يُنجيني يومَ الهلاك سِواه، أُمسكُ بزمام حرفي، مُتجهاً إلى أسدِ بغداد. أبثُّ النجوى في صُورة كلمة، وأهشّ على الآلام بصوتي المُثقل بالآه، وأسقيها بماء العُيون علّها تبقى، بها أنا حيٌّ قادرٌ على العطاء، أتكئ على جِراحات الأمس، أرُشُ فوقها مِلحاً وهمياً، أدغدغها. أرسم لوحة خطوطها من دِماءٍ سائلة، أتركُ فيها “كُلّي” وأعود خاوياً، أجرّني فوق الصخور. وأتشظّى على طريق الراحلين.
إنّ الموَتَ يحضرنا في كُل لحظة، فتارةً يخطف الضَحِكات، وفي تارةٍ أخرى يخطف الأرواح. في لحظةٍ ما يسرق الوجود ويتركَ في الميدان آلامٌ مُدرّة للدموع الدائمة، حياتنا دوّامةٌ تبتلع كُل جميل حاولنا صِناعته، تتغيّر المبادئ، نسقط في الوحل، يعتلينا الصَدأ، والموت واحد. صاحب السطوة، صاحب الهيبة، هادم اللذات، وصانع الأتراح. لا شيء يُشبهُه. يتركُ حسراتنا عارية على وجوهنا، يدمغنا بالأسى، ويُطلق صَوته: اليوم رحل عنكم فُلان.
شتاتٌ مُخيف، نعيش على شكلِ جُزيئات متناهية الصِغَر، كُل واحدٍ فينا. ذرّة في محيط هذا الكون الغريب، حتّى جِمار الاشتياق استحالت رماد. نتدرّع بالخوف علّنا ننجو، نأمل ولا نأمن أنفسنا، تلك المُحمّلة بالأدران، مُقترفة الخطايا، المُنجذبة إلى الجحيم. لا نأمن مشاعِرنا المهترئة، لا نأمنها عندما تُخادعنا بُحبٍ زائف، أو ببُغضٍ غير مدروس، أو بعِشقٍ مدسوس، ضياع بل أقسى.
بعضنا يفتح باب الموتِ قبل وصوله. يمَهِدِ الطريق له، هوَ ملّنا ولم نمَلّه، فالاشتياق إلى الغائبين نارُ فُرسٍ مُشتعلة، بعضنا يغرسِ أصابعَهُ في أعينِ الموت وينُاديه: هَلمَّ إليّ أيّها البعيد، فالطريق شَوك، والحضور أشباه موتى، أنا.. أنا بقايا إنسان تُرِكَ على حافّة الحياة، أمارس الوُجودَ مُلزماً، أنا هاربٌ مِنهُم مُدّعي الحُب. لا شيء يبقى في النهاية، كُلنا راحلون. بعضنا يهرب مِنه إلا أنّه مُتّجه إليه.
أما أنا، فإنّي أشدُّ الرِحال إليه، فدبيب الرحيل تسلل شيئاً فيشيء، صيّر الروح فلاةٌ قفرا، والشرخٌ الظاهر في جبيني صارَ شُروخ، لم تعد جِراحاتي تلتئم لأغرسَ فيها المِلح، هيَ نازفة بلا توقّف، تَصُبُّ الحِكايات صبّا، بين الجرح والجرح جرح، صريع؟ لا. حيّ أقارع هذه الحياة بحُروف “أمانة موسى بن جعفر”، وأهزمها مَتى ما صِرتُ نقيا، وأهزِمها متى ما آمنت.
بعضُ الألم يُولدُ في حياتنا فيُعيدها إلى فِطرتها. هذا ألمُ مُصاب إمامُنا موسى بن جعفر.