الليلة تتقاتل البدايات مع النهايات، وتتخطّى فيه الأمنيات صوتَ العُطاشى لتستودعه بكلماتٍ تخطّت التاريخ وامتدّت إلى اليوم، نداؤهم الممزّق، نسمعه في كُل لقاء مع الماء يُنادون والأنين يُلاحق كلماتهم “يعبّاس جيب الماي لسكينة”، هل نبكيك يا سيّد الماء أم تبكيهم؟ أومثلهم يستحق العَطش؟ ازرع الارتواء على ضفّة ما تيسّر من طِفل.
كانت البداية؛ وكان العبّاس. كان العطش يُفتت في ما تبقّى من شفاهٍ ذابلة، ظهر الوهن على وجوه أطفال مُلأت غُبارا. وبدت آثار الخوف في ارتجافهم، فأشرق العبّاس في مخيّم آل النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وعلى فَمِه آثار السؤال تتجلّى، هيَ البداية أن يُطلق ذلك السؤال المُخيف، ويطلب ذلك الطلب الأخير، وكل الكلام الدي لا يُقال احتشد في صدره. ظهيرة عاشوراء رمت بكامل موتها فوق عين الحُسين، فالصحب صرعى، والآل مقطّعين، والعبّاس حان ميعاد سقايته، كانت البداية، حتّى بدت أنّها النهاية.
أيّها الممسوسون بالحُسين، أما آن لكم أن تستيقظوا؟ أيها الصرعى في ساحة الخلود أما سمتعم واعيته؟ كيف لا تتحرّك أجسادكم المضرّجة بالدماء؟، صرخَ في وجه الصحراء. وجاء النِداء مُجدداً “عمْ يا عبّاس العطش فتّتنا”، حان ميعاد السؤال، فكان: “سيّدي، أتأذن لي؟”. والقِربة تشفع لحضوره، تمّم السؤال بكلمة “سيّدي، الماء”. لم يأذن له للقِتال، أطلب الماء سيّد الماء.
حان ميعاد النهاية؛ حانت لحظة قيامة العبّاس، جنب النهر هُناك نَفخ في القربة، فاستيقظ الخوف في صدورهم، ناجى الماء ورمى الماء على الماء .. الماء. يا نفس من بعدهِ هوني، أعيذَك أيّها الماء من كُل رجسٍ زنيم، قُم يا رواء العُطاشى، انهض وقُل باسمك اللهم أخط الخطى نحو خيام الغريب. تحرّك “العبّاس” حاملاً معه قِربة إيجاد الحياة، وعلّة خروجه من مخيّم الحُسين، تحرّك واهتزّ لواه في سماء كربلاء، إنبعث مجدداً جمّع روحه التي اشتاقت حُسينه، انطلق إلى “سكينته” ولم يصل!.
كمن له خلف شجرة، كمن له من خلفه، “إني أحامي أبداً عن ديني”، أفناهم إلا أنّ سهماً دلّ عين العبّاس وفجّرها، أضاع الطريق؟ لا .. بل عاد إليهم، سقاهم الموت. ورحل.
××
“ملأ البوادي صيحة” وماتت كُل أشكال الحياة.