أخذ بيدي، وضع فيها مبلغاً ضخماً وأخبرني بصريح العبارة: “أُكتب”. فبدأت بالكتابة، وتدلّت الكلمات من فوق شجرة الإلهام، وأمطرت الأفكار فجمعتها في “طشتٍ” صغير وضعته أمّي في الخارج لتجميع “أمطار نيسان”، شرِبُت من ماء الأمطار فصارت التراكيب اللغوية تتوالد في داخلي، وكتبت وصِرتُ أدعى كاتباً وروائياً. توَقّف هل تُصدّق هذا الهُراء الذي كُتب؟ هل لديك أدنى شك بأنّي اختلقت كُل هذه الكلمات؟ توقّف لم يكن الأمر هكذا أبداً، توقّف عن تخيّل هذا الموقف، فلم يكن هُناك من يقودني إلى الكتابة، ولم أجد شجرة الإلهام إلى الآن، وقطرات الأمطار لم أتذوّقها منذ زمن، صدّقني لن يهتم أحد إن كُنت كاتباً مميزاً أم لا، ولن يجتهد أحدهم لبناء كوخ خاص بي للكتابة، فالأمر مُختلف بعض الشيء عن كُل هذه التصوّرات، لن يأخذ أحدهم بيدك ويخبرك بأنّك يجب أن تكتب الآن.
هل لديك هاتف بين يديك؟ ورقة؟ قلم؟ منديلاً ما سحبته خفيه في تجمّع عائلي؟ علبة سجائر -إن كُنت مدخّناً وأسأل من الله أن لا تكون-؟ باطن كفّك؟ إن كُنت تمتلك فتذكّر أنّك قادر على اقتناص الأفكار المتطايرة في كل ثانية، كُل ما عليك هوَ تدوينها والاحتفاظ بها لوقتٍ لاحق تكون فيه قادراً على الكتابة لوقت أطول ، فالفكرة عندما تحضر عليك صيدها سواء كُنت في السيّارة أم في المطبخ تبحث عن بقايا طعام من الأمس، أو كُنت في أماكن أكثر خصوصية، كُن على استعداد، هل تعلم بأنّ “الشاعر الفذ جابر الكاظمي كتب إحدى قصائده الشهيرة التي سمعناها عبر الصوت الحزين المبدع (باسم الكربلائي) على أكثر من منديل مُزدوج، في غُرفة الإنعاش حيث الأجهزة مرتبطه بقلبه وبمعصمه، كتب (إنّها ليست دماء) في تلك الحالة وفي ذلك الزمان وفي تلك الغُرفة” – نقل القصّة لي صديق كان في الغرفة ذاتها – الاستعداد الدائم سرٌ من الأسرار.
لعل أجمل وقت للكتابة هوَ ما بعد منتصف الليل حيث الكُل نائم، وحدك تطارد الأشباح خلف الشاشة، تكتب الكلمات وتمسحها بهدوء دون أن يشعر بك أحد، تبكي تضحك، كُل شيء هادئ فيكَ إلا الكتابة، فهيَ تشاغبك وتشاغبها، تارةً تصرعها -وهذا مما يندر- وتارات تصرعك، هذا الحال لن يستمر معك طويلاً، مع تقدّمك في العُمر تكبر فيكَ الكتابة، ستجد نفسك تكتب في كُل مكان، في مقهى صاخب، في غُرفة مليئة بشباب يثرثرون، عند الإشارة الحمراء، بالقُرب من أطفالك، في كُل مكان تكون الكتابة.، لا تتوقّف حتّى تتوقّف الكلمات من الحضور وتهرب الأفكار من بين يديك. ستشعر بالاضطراب، الأمر طبيعي جداً، الكاتب لديه أمور تُطارده باستمرار، وكوابيس تسلبه النوم، يتغوّل الخوف من “حبسة الكاتب” في عقله والتوجّس من سطوة الناقد الذي قد يقرأ النص الذي ستقدّمه. فقط انتبه فأنتَ هُنا في تماس مُباشر مع الجنون، تذكّر؛ تمتلك القدرة على البناء والقوّة للهدم، لا تهتم لصوت الناقد الداخلي أو الخارجي في هذه اللحظة -لحظة الاضطراب-، فقط أكتب، ولمثل هذه الحالة قال المجنون “غابو”:
“النقّاد بالنسبة لي هُم أكبر مثال على مشكلة المثقفين، أولاً، لديهم نظريات تحدد الطريقة التي يجب أن يكتب بها الجميع، ثم تبدأ محاولاتهم لوضع الكاتب داخل هذه النظريات كي تناسبه مقاساتها الضيقة وإن لم تناسبه هذه المقاسات، يحاولون إدخاله فيها بالقوّة.” – غابريل غارسيا ماركيز.
إذا كُنت قرأت كُل ما مضى وكُنت تعتقد أنّك ستجد أمراً جديداً مختلفاً ولم تجد، أعتذر لك، فما كُتب هُنا هوَ لإعادتي إلى جادّة الكتابة في عالم (التدوين)، أمّا أنتَ فإنك تعلم بأنك يجب أن تهرب إلى الكتابة الآن، لتنزف هُناك على الورقة أو على الشاشة.