في منتصف الليل، زارني دون استئذان، دخل وأخبرني أنّ الغُربة التي أعيشها مصدرها نوم بقيّة العُشّاق، في سبات عميق، دخلوه قبل أعوام ولا يزال النوم مُسيطراً على عقولهم!.
وكشف لي عن ثِيابُ الأسى التي تُغزل من دماء سالت قبل ألف عامٍ وأكثر، وأسمعَني ألحاناً عُزفت لتُثير الدموع وتصنع منها بركاناً ثائراً ينبع من عينٍ حمراء دامية، يتفجّر باستمرار دونَ مللٍ أو كلل، لتُغرَس الدمعة عبر مخالب الحُزن في القلوب دون رحمة أو استجداء عطف، وأخبرني أنّ النيران تحبو ببطء إلى بابِ الرّحمة لتُشعِلَ نيراناً لا تنطفئ، وتعيد كسرى والطُغاة.
قبل أن يخرج أهدانيَ ثوباً مُمّزقاً وتلعق الأرض قطرات دمه الطهور!، ونظر إليّ بنظرة المودّع الراحل إلى تلك المدينة النائمة فوق النهر التي انغمست في لوعة الغياب منذ تلك اللحظة التي تهاوت فيه “الطُهر” فوق التراب، ولا شيء يمكنه إيقاف عجلة التاريخ، رغَم أنّ المُدن تحتمل الأسرار في جوفها، إلا أنّها في بعض الأحيان تتقيّء غضباً كلّ الذكريات!، وما إن توارى عن عيني، حتّى بدأ الهَم يقضمُ خُبزاً يابساً من عقلي! -يا تُرى هل يأكل الخُبز اليابس إلا الفقير أو ذلك المُشرّد البائس في زماننا هذا؟!- يا تُرى هل نمتلك تلك القوّة التي تحتوي كلّ حَرف؟ أم الكلمات هيَ مُجرّدة لا تحتوي على شيء إلا رسمٌ أفعواني يتلوّى فوق السطور لنتمكن من التواصل؟ لا يُهم .. المُهم هوَ أنّ المُدن هتكت أسرارها وأخبرتنا أنّ الحياة لم تَكُن أجمل، بل كانت أقسى، ولم تكن أطهر بل كانت مليئة بالعفونات!، باستثناء بعض الطُرقات، والنور لم يسكن المنازل كما أخبرونا!، بل سالت الدماء في كلّ زاوية من زواياها، والبيت الكبير الذي يحتوي هذه المُدن مُجرّحٌ بفعل أشباه البنين الذين سكنوه طمعاً في الطعام والنقود!.
ليلي المُظلم لا ينتهي، يمتد ويمتد ويخنق أنفاسي بحثاً عن حرف تَنزفه يدي، وما إن أتوقّف حتّى يطأ صدري بقدمه المُثقلة بالهموم، ويضغط على أضلعي بحثاً عن نقطة أخرى أكتبها!، يمارس الإرهاب بطريقة مجنونة تضعني في مأزق الكتابة.
××
عظّم الله لنا ولكم الأجر في ذكرى استشهاد الصدّيقة الكُبرى أم أبيها فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.